عند وضع منهج التاريخ في عام 1970 بموجب المرسوم 14528/1970، لصف التاسع أساسي، ظهر، بحسب الباحث التربوي محمد رمال، موقفان متناقضان في ما يخص القضية الفلسطينية داخل اللجنة المعنية، التي مثّل أعضاؤها آنذاك التوازنات السياسية اللبنانية: موقف يعكس خطاب العهد في ذلك الوقت، وهو التزام القضية الفلسطينية بنحو كامل، وعدم الخروج من مظلة جامعة الدول العربية، وتصنيف الساحة اللبنانية ساحة مواجهة ضد إسرائيل. وموقف ثانٍ متشدد من «الممارسات تحت طابع الثورة»، وجعل لبنان ساحة لتحرير فلسطين، ومتخوف من حجم المدّ الفلسطيني المؤثر في الساحة اللبنانية والعربية.
نصوص حيادية مجردة

في ظل هذا الجو المحموم، أنتجت الخصوصية التي تفرضها التركيبة الديموغرافية للبنان، كما يقول رمال، عبارات خجولة ونصوصاً حيادية مجردة من أي عواطف أو حسّ أو انتماء، وهي لا تدخل في وجدان القارئ ولا تحرّضه على قضية حق، بل محكومة بضوابط تراعي علاقات لبنان مع الخارج (الغرب). ولو كان المطلوب تنشئة الأجيال على الفكرة الوطنية والقومية، لجرى، كما يقول رمال، عرض القضية الفلسطينية كمثال صارخ على مفاهيم العدوان وانتهاك السيادة وحقوق الإنسان وانتزاع شرعية شعب بملكية أراضيه وتهجيره وضياع مصيره.

عرض القضية الفلسطينية في المنهج القديم يتذرّع بخصوصية لبنانية

ليس منطقياً، بحسب رمال، أن يكون أول عنوان في المحور تعريف الصهيوينة ونشأة حركتها، فيما ينبغي أن نحدث التلميذ عن فلسطين أولاً. وفي الفقرة المتعلقة بتقسيم فلسطين في هيئة الأمم المتحدة، يُكتَفى في أحد الكتب بالقول إنّ بريطانيا نقلت قضية فلسطين إلى هيئة الأمم المتحدة، فشكلت هذه الهيئة لجنة ووضعت تقريراً اقترحت فيه تقسيم فلسطين إلى ثلاثة أقسام: قسم عربي، قسم يهودي وقسم دولي، ورفض العرب هذا المشروع وأصروا على وحدة فلسطين وعروبتها. وفي كتاب آخر، يرد التقسيم على النحو الآتي: «بعد الحرب العالمية الثانية، تجددت المشاكل بين العرب واليهود واتخذت القضية الفلسطينية بعداً عربياً ودولياً وحاول العرب والإنكليز وضع مشاريع حلول للقضية، لكنها باءت بالفشل، عندئذ قرر الإنكليز رفع القضية إلى هيئة الأمم المتحدة التي قررت تقسيم فلسطين إلى دولة عربية ودولة يهودية وتدويل الأماكن المقدسة... والجدير بالذكر أن العرب رفضوا هذا المشروع». لم تحمّل هذه النصوص، كما يقول رمال أحداً المسؤولية، ولم تقل للطالب إن هيئة الأمم المتحدة تنكرت للمفاهيم الإنسانية التي وُجدت لأجلها مثل فرض السيادة ومنع الاعتداء وحق تقرير المصير. ولم يجرِ التعاطي مع التقسيم كجريمة ارتكبت بحق فلسطين بالتذكير بالمؤامرة التي أدت إلى التقسيم (وعد وزير الخارجية البريطانية آرثر جيمس بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين). برأيه، العرض لا يليق بالقضية الفلسطينية بما هي قضية حق ولا يحفّز على اتخاذ موقف ولا يعدّ جيلاً يفهم ما هي القضية، وهو يتوافق مع هوية لبنان وعلاقته الحذرة بالوجود الفلسطيني.

خلاف على الهوية

يقرّ المؤرخ أنطوان الحكيم بأن النقاشات داخل اللجان الرسمية تكشف بوضوح أنّ هوية لبنان ليست محسومة بعد، «فهذا هو صلب الموضوع والباقي تفاصيل ونتائج لهذا الخلاف مثل القضية الفلسطينية والحرب الأهلية والأمير فخر الدين، إلخ». هناك، كما يقول، رؤى مختلفة، فلا يزال اللبنانيون منقسمين بين من يقول إن لبنان جزء من العالم العربي، ومنهم من يقول إنّ لدى لبنان كبلد متعدد الطوائف هوية ثقافية واجتماعية خاصة. يبدو الحكيم مقتنعاً بأنّ كتاب التاريخ في مجتمع تعددي، يجب أن يراعي حساسيات البلد. برأيه، لا يمكن أن يكون التاريخ ملتزماً، بل يتطلب أن يقدم المؤرخ كتابة موضوعية غير استفزازية وطائفية، ويعمل باتجاه توحيدي، فيضع وجهة النظر التي تأخذ بالاعتبار كل الذاكرة الجماعية ولا تمسّ بكرامة أي طائفة أو حزب، ويدوّر الزوايا لإيجاد صيغة يتفق عليها الجميع.
في المقابل، يرى رمال أنّ المطلوب عرض الوقائع التاريخية كما هي وعدم الخوف من التعليق على التفاصيل. يقول إن ما يحدث مع مناهج التاريخ هو الخلاف على توصيف الأحداث خوفاً من الانقسام، فتجري التعمية والإشارة إلى الواقعة من دون عرض الآثار المترتبة عنها، وكأن المطلوب تعريف الطالب بالواقعة نفسها وليس بمجريات الأحداث في قالب تربوي يسعى إلى دفعه إلى إعمال الفكر الناقد والإفادة من التجارب واكتساب المعارف والمهارات ومعرفة الدروس المستقاة، وبذلك يتعلم الطالب التاريخ ليعرف ويكوّن ثقافته التاريخية وليس ليعلم.

الصراع على المضمون وليس على التفكير

لكن النقاش الدائر في اللجان هو تحقيق التوازن ليس فقط في النصوص بل في الصور والمستندات والشخصيات، بمعنى إذا وضعنا صورة لشخصية محسوبة على فئة معينة يجب أن نضع في المقابل صورة لشخصية من الطرف الآخر. ما يحصل هو استخدام التاريخ لأغراض «البروباغندا»، هذا ما تقوله الباحثة التربوية وعضو الهيئة اللبنانية للتاريخ مهى شعيب. برأيها، الصراع بين واضعي منهج التاريخ هو على المضمون وكيفية صياغة رواية واحدة، فنرى أن الهم الأساسي يصبح شو بدنا نشيل وشو بدنا نحط وشو بدنا نحفظ التلميذ... وليس الهدف وضع كل الروايات في تصرف التلميذ وتعليمه كيف يفكر ويحلل الأحداث التاريخية».
تقول: «إذا أردنا مثلاً أن نعلم القضية الفلسطينية اليوم، لا يمكن أن نتعاطى مع الطالب على أنه متلقٍّ سلبي، فنفسر له التاريخ على قياس المجموعات المكونة للجان، بل يجب تنمية مهاراته حول القضية بأن نشركه في النقاش حول مفهوم المقاومة ومقاطعة إسرائيل وحقوق اللاجئين الفلسطينيين والظلم الذي لحق بهم في أرضهم وفي بلد اللجوء». تستدرك: «طلابنا لا يستطيعون إقناع الآخر بعدالة قضاياهم، لأنهم لا يستطيعون مقارعته بالمعلومات والحجج».




ماذا في منهج 2010؟

ينفي حسن منيمنة، وزير التربية الأسبق ورئيس اللجنة التي وضعت آخر منهج لمادة التاريخ في عام 2010، أن يكون أعضاء اللجنة قد اختلفوا على القضية الفلسطينية، «فالأمر لم يكن مطروحاً على الإطلاق، ولم يربط أي من أعضاء اللجنة بين القضية الفلسطينية كقضية مقدسة والتدخل الفلسطيني في الحرب اللبنانية الذي عولج بنحو مستقل. في الواقع، يتطرق المنهج الذي توقف في مجلس الوزراء بسبب التحفظ على توصيف الحرب الأهلية إلى فلسطين في ثلاثة حصص. ففي درس لبنان بين 1946 و1958، يقارب الطالب مستندات عن دور لبنان في حرب فلسطين وعن اللاجئين الفلسطينيين، ويتعرف في المحتوى إلى الانعكاسات السياسية والاقتصادية لنكبة فلسطين على لبنان. وفي مرحلة الإصلاحات والتطورات وبداية الأزمات الداخلية (1958 ـ 1975) يربط الطالب بين الصراعات الإقليمية (المقاومة الفلسطينية، سوريا، إسرائيل...)، ويتعرض لنص عن اتفاق القاهرة، ويدرس انطلاقة المقاومة الفلسطينية. ويتناول درس الحرب اللبنانية العامل الفلسطيني المسلح ودوره في حرب لبنان ومصلحة العدو الإسرائيلي ودوره في تأجيج الحرب، والاجتياح الإسرائيلي الأول (1978) والاجتياح الإسرائيلي (1982) وخروج الوحدات السورية والمقاومة الفلسطينية من بيروت ومقاومة لبنان لإسرائيل ومخططاتها (1948 ـ 2006).

* للمشاركة في صفحة «تعليم» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]