النفس الاستعلائي الذي يسيطر على العقلية التي تتحكم في مفاصل الدراما اللبنانية، هو المشكلة الأساسية التي تجعل هذه الصناعة كسيحة وعاجزة عن الإفادة من غنى الأحداث، أو الدراما السياسية، أو الماكينة الإعلامية، التي يمتلكها هذا البلد الصغير.
فالنقد الذي يشير إلى مكامن الضعف بغية تلافيها في الأعمال المقبلة، هو تعدٍّ غير مسموح به بالنسبة إلى عدد كبير من النجوم اللبنانيين، و«الصناعة الوطنية» باتت تعتبر عتبة مقدسة لا يجوز المساس بها. ويمكن ببساطة الرد على أي مكاشفة نقدية صريحة تسمي الأشياء بمسمياتها، بلغة عنصرية...
وعليه، وإن وصل عدد المسلسلات اللبنانية، بما فيها ما يعتمد على كوادر سورية بشكل رئيس، إلى حوالى تسعة وفق إحصائيات الموسم الحالي، إلا أنّ الملامح العامة للنتائج لا تشي بإمكانية انفراجة قريبة. والسبب الجوهري يعود إلى تعاطي العقل الدرامي اللبناني بشكل استهلاكي، وسياحي ساذج، مع مفردات المجتمع في بلاده، لدى تصنيعها حكائياً، ثم التخاذل عن التوغل في شلّال الإشكالات الاجتماعية التي أفرزها تاريخ حافل بالحروب الأهلية. حرب شكّلت على سبيل المثال مادة أساسية لمسرح زياد الرحباني ونجاحاته على مدى عقود من الزمن. على هذه الحال، لا يمكن للآني أو القادم القريب من دراما تهرب من الالتصاق بواقعها، ولو بأسماء شخصياتها، خشية الإحالة إلى الطائفية المقيتة التي تحكم البلد، أن يُستبشر منه خيراً. ورغم ما يشاع عن نتائج إيجابية للنزوح السوري إلى لبنان، على صعيد الدراما المشتركة وتبادل الخبرات، إلا أن الموضوع بكل فعلي يؤول إلى عكس ذلك... ولو أسهمت هذه الأعمال المشتركة في تعريف المشاهد العربي على بعض الممثلين اللبنانيين، من خلال أعمال عرجاء لا يتعدى الصراع الدرامي فيها قصص رجال المال، وحالات الخيانة الزوجية، وبمعظمها مسروق من أفلام عالمية وفق انتقاءات رديئة من دون أخذ الإذن أو شراء الحقوق من الشركات المالكة لها («روبي»، «مطلوب رجال»، «الاخوة»، «علاقات خاصة»، «لعبة الموت»، «تشيللو»، «لو»، «نص يوم»).

يبدو الخط اللبناني في «شوق» الخاصرة الرخوة للمسلسل


كل ذلك التشويه البصري جرى بذريعة أن هذه الأعمال الفقيرة إبداعياً تحقق نسب مشاهدة عالية، في استدارة علنية لفكرة أن العقل الجمعي للجمهور أكثر براءة من أن يتحول إلى مقياس حكم، وأنه يتلقف كل ما يطرح للتداول، لتبقى مسؤولية الارتقاء بذائقته، وجعله يدرك الغث من السمين، تقع على مسؤولية الفنان والمثقف في الدرجة الأولى. على أي حال، تحصد الشراكة السورية اللبنانية في غالبية ما قدّم من أعمال درامية، بما فيها هذا الموسم، خسائر فادحة للجانبين، بخاصة الجانب السوري الذي بحث أولاً عن لوكيشن هادئ بعيداً عن صخب الحرب، فلم يجد أفضل من بيروت. بالتالي، اضطر إلى إدخال عناصر لبنانية في عمله، ثم صار مجبراً نتيجة استمرار الحرب وافتقاده لسوق العرض المحلية، على افتعال خطوط درامية لبنانية، علّها تشجّع المحطات في بيروت على الشراء، ليكون ذلك حلاً بديلاً من السوق الخليجية التي بدأت تستغني تدريجاً عن الصناعة السورية.
هذه الخطوط المفتعلة سبّبت ترهلاً ظاهراً في بنية أي مقترح حكائي تلفزيوني، نتيجة قصور الكتاب غالباً في خلق ذرائع، وحوامل درامية تبرر وجودها. على سبيل المثال، فإنّ «غداً نلتقي» (إياد أبو الشامات ورامي حنا) الذي عرض في رمضان 2015، ظهر في أفضل أحواله لأنه يلاحق مصائر سوريين في لبنان... مجموعة مسحوقين عبروا إلى الجارة الصغرى تمهيداً لهجرة نهائية. في المقابل، يبدو الخط اللبناني في «شوق» (حازم سليمان ورشا شربتجي ــ «سوريا دراما») الخاصرة الهشة للمسلسل بسبب إقحامه وإمكانية استبداله بخط سوري مباشرة من دون التأثير في مجريات الحدث، بل كان يمكن إعطاؤه دفعاً مضافاً من المصداقية. حالة تنطبق على غالبية ما قدم من أعمال يختلط فيها السوري مع اللبناني، فيما تتّكئ الصناعة اللبنانية هذا الموسم على أسماء سورية فشلت في صناعة أيّ مجد أيام الألق الدرامي لبلادها، فصدّرتها الحرب، وتلقّفها الجانب اللبناني على أنها كوادر سورية خبيرة؟! من جانب آخر، لا بد للمقارنة بين الطرفين أن تقع، وفي الدرجة الأولى، على مستوى الأداء التمثيلي. لم تتمكن الأسماء اللبنانية المعدودة التي سيطرت على السوق الفضائية حتى هذا الموسم، من مجاراة حرفة زملائها السوريين، نتيجة الفارق الواضح في الخبرة، والتراكم، ومن ثم أسلوبية التآلف مع الكاميرا انسجاماً مع نظرية الأداء الحديثة «التمثيل بلا تمثيل»، بمعنى ألا يظهر الممثل إمكانياته إلا عندما يحرّض الورق على ذلك. من ناحية ثانية، يلتفت المنتج اللبناني إلى ميزة يتمتع بها الفنيون السوريون إزاء التعاطي العملي والجدي مع تفاصيل المهنة، وإيجاد البدائل المتعددة في حال وقوع مشاكل إنتاجية، والتعامل الحذر مع وقت التصوير... عناصر تفتقدها الكواليس في حال غياب الفني السوري، وهذه أعقد المشاكل التي تعرقل تطور هذه الصناعة في لبنان.