يوم السراي الحكومي أمس كان طويلاً. اجتماعات مُكثّفة بين القوى السياسية الرئيسية، نتج منها تثبيت اتفاق على قانون للانتخابات، يعتمد النسبية في 15 دائرة. مشروع القانون المُتفق عليه لن يُغيّر بالطبع شكل النظام الحاكم في البلاد، الأكثر عمقاً من أن تبدّله انتخابات. وصحيح أنّه جرى «تخفيف» النسبية، وليس الـ15 دائرة هو ما يطمح إليه قسمٌ كبير من اللبنانيين، ولكن انتُشلت البلاد من القعر عبر تجنبيها كارثة دستورية لو أنّ ولاية المجلس النيابي انتهت من دون الاتفاق على قانون جديد.
ويصحّ وصف ما تحقق بـ«الإنجاز»، لسببين أساسيين؛ أولاً، دُفن القانون الأكثري السيّئ الذي حكم لبنان منذ عشرينيات القرن الماضي، فكان مُجحفاً على الصعيد التمثيلي لقوى سياسية عديدة. أما السبب الثاني، والأهم، فهو دخول لبنان عصر النسبية. ولتوضيح أهمية النسبية، تكفي الإشارة إلى مثل عملي: كان المُرشح في دائرة بيروت الثالثة (سابقاً) بحاجة إلى ما يُقارب 75 ألف صوت ليفوز بمقعد، فبات بعد أن أصبح اسم الدائرة بيروت الثانية (وتُعدّ من أكبر الدوائر) بحاجة إلى أقل من 17 ألف صوت (وينخفض العدد المطلوب لنيل مقعد في حال لم تكن نسبة المشاركة في الانتخابات قياسية). يفتح ذلك المجال أمام شكلٍ جديد من التمثيل السياسي. ومرّة جديدة، من دون أن يعني تغييرات جذرية في جوهر النظام.

قدّم حزب الله
وأمل تنازلات، لكنهما فازا بالنسبية التي لطالما طالبا بها


عوامل عدّة أسهمت في التوصل إلى هذه النتيجة. وقد يأتي في المرتبة الأولى موقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي تمسّك بإسقاط ما يُعرف بقانون الستّين، ووصل به الأمر حدّ الامتناع عن توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة وتشكيل هيئة الإشراف على الانتخابات. كذلك فإنّ «الجنرال» أصرّ على رفع لواء «حُسن التمثيل».
العامل الثاني أتى من جانب حزب الله وحركة أمل اللذين تمسّكا بالنسبية. وكان لرئيس مجلس النواب نبيه برّي دور كبير في التوصل إلى التسوية، من خلال إسقاطه مشاريع القوانين الطائفية والتقسيمية التي طُرحت في الأشهر الأخيرة.
يُضاف إلى ذلك، تجاوز رئيس الحكومة سعد الحريري لتوجساته من النسبية، وتسهيله القبول بها وفق أيّ تقسيمات، رغم الخسارة الكبرى التي يُتوقع أن تشهدها كتلته النيابية.
وفضلاً عمّا تقدّم، لا يمكن إغفال «الدور المساعد» الذي أدّاه النائب جورج عدوان، فأدّت الوساطة التي قام بها في التوقيت المناسب إلى تلاقي معظم المكونات السياسية حول مشروع الـ15 دائرة.

تشوّهات المشروع

في المقابل، تُسجّل بحق مشروع القانون الجديد شوائب عدّة. جرى عمداً وبشكل وقح تقسيم دوائر معينة بطريقة طائفية، وأبرز مثال على ذلك هو إعادة العمل ببيروت الشرقية (الدائرة الأولى) وبيروت الغربية (الدائرة الثانية)، تماماً كما كانتا في الحرب الأهلية. الأمر الآخر، هو غياب المساواة في تقسيم الدوائر، فبعضها صغير جداً لناحية عدد المقاعد المُخصّصة لها (في دائرة جزين ــ صيدا 5 مقاعد، أما الشوف ــ عاليه فـ13 نائباً). والملاحظة الثالثة هي في إصرار «ركنَي الحُكم»، التيار الوطني الحرّ وتيار المستقبل على حصر الصوت التفضيلي في القضاء، رغم أنّ 8 دوائر من أصل 15 مؤلفة إما من قضاء واحد، أو نصف قضاء (كدائرتي بيروت). حصر الصوت التفضيلي في القضاء هو في الأساس مطلب «المستقبل»، الذي يريد إلغاء تأثير أصوات المقترعين الشيعة في جزين على هوية شاغِلَي مقعدَي صيدا. ولكن لو مورست الضغوط على الحريري، لكان بالإمكان التفلّت من هذا الشرط الذي ينتقص من حقّ عدد من الناخبين من المشاركة الكاملة في العملية الانتخابية. فمسيحيّو بنت جبيل، والنبطية، وصور، والمنية ــ الضنية، لن يتمكنوا من منح أصواتهم التفضيلية للمرشحين المسيحيين في دوائرهم، رغم أن التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية رفعا لواء «تحسين التمثيل المسيحي».
هذا البند دفع الوزير يوسف فنيانوس إلى التصريح أمس بأنّ تيار المردة يعترض على الصوت التفضيلي في القضاء «ونريده على الدائرة، لأنّ لدينا مرشحين في كل دوائر الشمال، فيما التيار الوطني الحر لديه مرشح واحد في البترون».

رابحون وخاسرون

صحيح أنّ الاتفاق على القانون دفع كلّ القوى إلى تقديم تنازلات معينة، ولكن ذلك لا يلغي «نسبية» الخاسرين والرابحين. على أول لائحة الخاسرين، يأتي الحريري الذي كان يرفع شعار «رفض النسبية في ظلّ سلاح حزب الله»، فيما الحقيقة أنه رفضها كونها ستعيد كتلته النيابية إلى حجمها الطبيعي بعد أن «استولى»، منذ عام 2005، على أكثر من 10 مقاعد من دون وجه حق. ما ينطبق على الحريري، ينطبق بدرجة أقلّ على النائب وليد جنبلاط الذي كان يرفض، حتى أسابيع خلت، البحث في النسبية. عاد إليها لأنها الخيار الوحيد المتاح، رغم أنها قد تُفقده عدداً من مقاعد كتلته.
توزيع الدوائر الـ15 (تصميم سنان عيسى) | للصورة المكبرة انقر هنا

والمُشترك بين الحريري وجنبلاط في رفض النسبية كان رغبتهما في الظهور كالممثلين السياسيين الوحيدين داخل طائفتيهما. القانون الجديد سيفتح الباب أمام احتمال حصول خروق جدية داخل الكتل السياسية ــ الطائفية، وعلى رأسها تيار المستقبل والحزب الاشتراكي. وإلى جانبهما يُمكن وضع عدد من قوى «14 آذار»، وعلى رأسها «القوات اللبنانية» التي وقفت ضدّ النسبية وأطلقت عليها تسمية «مشروع حزب الله».
الخاسر الثالث هو الوزير جبران باسيل. رئيس التيار الوطني الحر هو «السوبر» وزير في العهد الجديد، ورئيس ثاني أكبر كتلة نيابية مُفترض أن تكون صاعدة لا آفلة ككتلة المستقبل. وهو رئيس أكبر كتلة وزارية، ومتحالف ومتفاهم مع أكبر تنظيمين سياسيين في البلد: حزب الله والمستقبل. رغم ذلك، أضاع فرصة أن يكون «عرّاب» الإنجاز الوطني بالذهاب إلى النسبية الشاملة، يوم لم يلتقط الدفة بعد أن أبلغ الحريري فريق 8 آذار أنه مُستعد للسير بالنسبية أياً كان تقسيم الدوائر. وعوض أن يقود باسيل قاطرة الاصلاحات الانتخابية، رفع سقف مطالبه إلى حدود غير مسبوقة، رغم أنه كان واضحاً لأي متابع للشؤون السياسية أن هذه المطالب غير قابلة للتحقق. باسيل أهدر الفرصة بشعارات شعبوية، مزايداً بعنوان «تحصيل حقوق المسيحيين»، فأساء إلى صورة التيار الوطني الحر كتيار إصلاحي.
في مقابل الخاسرين، قدّم حزب الله وحركة أمل تنازلين يتعلقان برفع عدد الدوائر إلى 15، وحصر الصوت التفضيلي في القضاء. لكن النسبية كانت مطلبهما منذ زمن بعيد. وقد أمّنا، بالنسبية، الفرصة لحلفائهما «المغلوبين» بالنظام الأكثري، لكي ينافسوا في عدد من الدوائر التي كانوا فيها يائسين. وعلى ضفة 14 آذار، باتت الفرصة متاحة أيضاً لشخصيات غير حزبية لتتمثل في النسبية. وفي وقت كان التحالف فيه بين التيار العوني والقوات، في قانون أكثري، سيؤدي إلى إفقاد بعض القوى مقاعدها، ثبّتت لها النسبية جزءاً من «حقّها»، وعلى رأس تلك القوى حزب الكتائب. ورغم ذلك، يعقد النائب سامي الجميّل مؤتمراً صحافياً الخميس، «ومن المُرجّح أن يُعلن عدم موافقة الكتائب على المشروع، لا سيما إذا لم يحصل نقاش في مجلس النواب». وتعتبر مصادر الكتائب المشروع الحالي اتفاقاً بين قوى السلطة «للعودة إلى مفاعيل الستين بتسميات هدفها التمويه وخداع الرأي العام».

رغم كونه خاسراً رئيسياً من النسبيّة، فإن الحريري ساعد على تحقيق التسوية


وهناك كتلة ثالثة بإمكانها شحذ الهمم للتمثل، هي الأحزاب والشخصيات الوطنية، والقوى «الجديدة» التي برزت بعد الانتخابات البلدية العام الماضي.
خرج الدخان الأبيض أمس بعد اجتماعين في السراي، ضمّ الأول الحريري والوزيرين جبران باسيل وعلي حسن خليل، والمعاون السياسي للأمين العام لحزب الله، حسين الخليل، والنائبين وائل أبو فاعور وجورج عدوان، أما الاجتماع الثاني فضمّ النائبين ألان عون وأحمد فتفت والوزير سليم جريصاتي، ومدير مكتب رئيس الحكومة، نادر الحريري، وقانونيين. وانضم إليهم لاحقاً الوزراء حسين الحاج حسن وغازي زعيتر وغطاس خوري. وعُقد اجتماع مساءً للجنة الوزارية المكلفة بدراسة مشروع القانون.
وقد اتُّفق على:
ــ الصوت التفضيلي في القضاء
ــ نقل مقعد الأقليات من بيروت الثانية إلى بيروت الأولى
ــ عتبة نجاح اللائحة هي الحاصل الانتخابي (قسمة عدد الناخبين على عدد المقاعد)
ــ السماح بترشح لوائح غير مكتملة، بشرط أن تحتوي مقعداً واحداً عن كل قضاء على الأقل، على أن لا يقل عديدها عن 40% من مقاعد الدائرة
ــ يُعتمد الكسر الأكبر في طريقة الاحتساب
ــ تُدمج اللوائح في الفرز ويتم ترتيب المرشحين في اللائحة على أساس نسبة الصوت التفضيلي في القضاء
ــ زيادة 6 مقاعد للاغتراب في الانتخابات المقبلة، على أن تشكل هذه المقاعد دائرة انتخابية واحدة. وفي الانتخابات التي تليها، أي بعد 8 سنوات، يُنقص 6 مقاعد من الـ128 لتُخصّص للمغتربين.
ــ موعد الانتخابات والتمديد التقني يُتّفق عليه بين عون والحريري
ــ في الإصلاحات، يجب إنجاز البطاقة الممغنطة والورقة المطبوعة سلفاً
ــ لم يتم الاتفاق على تنخيب العسكريين، وإقرار الكوتا المخصّصة للمرأة، ولا تخفيض سنّ الاقتراع

بري: مع البطاقة الممغنطة

من جهته، قال رئيس المجلس النيابي نبيه برّي أمس إنّ «الاجتماعات ستظل مستمرة، لأن هناك بعض التفاصيل لا تزال تحتاح إلى تذليل وحلّ»، موعزاً إلى وزرائه بالطلب في جلسة مجلس الوزراء اليوم استعجال طبع مشروع القانون فور إقراره كي يحال إلى مجلس النواب. ولفتت مصادر عين التينة إلى أن «جلسة مجلس النواب يُمكن أن تعقد منتصف يوم الجمعة المقبل». أما في حال تأخر إرسال المشروع بسبب طبعه وتوزيعه على النواب، مع الأخذ في الاعتبار مهلة 48 ساعة لإدراجه على جدول الأعمال، «فالجلسة ستعقد يوم السبت». رئيس مجلس النواب «لا يزال يميل إلى إقرار المشروع بمادة وحيدة حتى لا تتحوّل الجلسة إلى بازار سياسي، خصوصاً أن اللجان المشتركة كانت قد أقرّت في وقت سابق 60 مادة من مواد المشروع الحالي». وبحسب برّي، فإن «المادتين الأكثر جذباً للنقاش هما الأولى والثانية، مع ذلك لا يريد أن يحرم النواب من مناقشة المادة الثانية التي تتعلق بتقسيم الدوائر»، مؤكداً تفضيله «التمديد ثلاثة أشهر كي تجري الانتخابات في تشرين الأول، لكن بعد اقتراح وضع بطاقة ممغنطة، تبيّن أنها تحتاج إلى سبعة أشهر، وبالتالي هو شجّع على هذا الأمر، خصوصاً أن للبطاقة فائدة أساسية تتيح للمقترعين أن يصوّتوا في أماكن سكنهم. لذلك، فإن من المرجّح إجراء الانتخابات في الربيع المقبل».
(الأخبار)




«لغم» البطاقة الممغنطة

أبرز المُصرّين على اعتماد البطاقة الممغنطة (بطاقة شبيهة ببطاقة الهوية، يجب أن تكون في حوزة كل ناخب ليتمكّن من الاقتراع) هو التيار الوطني الحر، إلى حدّ أن الوزير جبران باسيل ردّ على سؤال صحافي بعد اجتماع تكتل التغيير والاصلاح بأنّ إلغاء هذا البند يعني تعديل القانون، «ما يفتح الباب أمام مطالب أخرى لدينا لتضمينها في القانون، فحقّ كلّ طرف أن يُطالب بتعديلات». البطاقة الممغنطة تسمح لكل ناخب بالاقتراع لمرشحي دائرته من مكان سكنه، ولكن من غير الواضح لماذا التمسك بها في الدورة الحالية. لكن تبرز أسئلة عديدة بشأنها: هل سيكون الاقتراع إلكترونياً أم في صناديق اقتراع؟ إذا كان إلكترونياً، فلماذا إصدار بطاقة ممغنطة؟ ألا يمكن التصويت الإلكتروني باستخدام بطاقة الهوية أو جواز السفر؟ ومن سيضمن أن يحصل كلّ الناخبين على البطاقة الممغنطة في غضون سنة، في حين أنّ عدداً كبيراً من اللبنانيين لم يستحصل بعد على بطاقة هوية رغم مرور نحو عقدين على إطلاق مشروعها؟ وهل لدى الدولة القدرة على إقامة شبكة ربط إلكتروني بين جميع مراكز الاقتراع في أقل من 12 شهراً؟ ولماذا منح تيار المستقبل هذه الذريعة «التقنية» لتمرير تمديد «سياسي» لمدة عام؟




الانتخابات في 6 أيار 2018؟

ومن المتوقع أن يتفق الرئيسان ميشال عون وسعد الحريري، قبل جلسة مجلس الوزراء اليوم، على موعد إجراء الانتخابات. وفيما أشارت مصادر وزارية إلى أن الانتخابات ستُجرى يوم 6 أيار 2018، قالت مصادر تكتل التغيير والإصلاح إن عون يريد إجراء الانتخابات في تشرين الثاني المقبل كحد أقصى، في مقابل مطالبة تيار المستقبل بأن تُجرى الانتخابات في آذار 2018، على قاعدة أن وزارة الداخلية لن تكون قادرة على إجراء الانتخابات إلا بعد تحضيرات تحتاج إلى 7 أشهر على الأقل. ورغم أن «المستقبل» يريد التمديد لمحاولة «لملمة» أوضاع الشعبية، فإن المنطق يقضي بمنح المرشحين الجدد، الذين سيقررون الترشح بعد إقرار النسبية، مهلة زمنية كافية للإعداد للانتخابات، وخاصة أنهم ينافسون نواباً موجودين في البرلمان منذ 8 سنوات على الأقل (بعضهم نواب منذ ما قبل عام 1992).