يحدق الأهالي في وفد السياح الفرنسيين المتجولين على أقدامهم من الشارع العام في الأوزاعي نزولاً إلى الأزقة الضيقة. يستغربون كيف ينظر الفرنسيون بدهشة وغبطة الى بيوتهم. يتلمّسون الحيطان ويلتقطون صوراً لكل الزوايا. يحاولون التقرب من الأهالي ويلتقطون «سيلفي» معهم. لم يعتد الأهالي هذا النوع من الزوار ولا الفرح البادي على وجوههم، و«كأنهم في أوروبا»، كما يهمس شاب كان يتناول النرجيلة صباحاً.
الآلاف يمرون، يومياً، بالأوزاعي في طريقهم الى بيروت ومنها. كثيرون لا ينتبهون ــــ وربما لا يعرفون ــــ إلى أن خلف المحال المتراصة التي تعلوها شقق متهالكة، تمتد أحياء سكنية. في أغلب الأحيان تخرج هذه الأحياء إلى الضوء نتيجة حدث «دراماتيكي»، من قبيل مطاردة أمنية لمطلوبين. المطاعم البحرية القليلة هنا يقصدها أهل المنطقة والضاحية. أما وقد زارها سياح فرنسيون وتناولوا الغداء في أحد مطاعمها التي لا تقدم الكحول، فللأمر حيثية خاصة.

قررت «تور ليبان» إدخال المنطقة ضمن المناطق السياحية التي تروّج لها



من مواقع التواصل الإجتماعي، تعرفت الناشطتان في الجمعية السياحية «تور ليبان» (تجول في لبنان) ندى روفايل وجويل صفير إلى مبادرة «أوزفيل» التي أطلقها عياد ناصر لطلاء واجهات البيوت بالألوان الزاهية والرسم الغرافيتي. قررتا أن تدخلا الأوزاعي في جولاتهما السياحية المقبلة. لم تطأ اللبنانيتان المنطقة سابقاً. فكرتهما المسبقة عنها لا تختلف عن فكرة الفرنسيين: «أحزمة بؤس شعبية تمدّدت بشكل مخالف على الأملاك العامة والخاصة، ويسكنها فقراء ومطلوبون، وتنتشر فيها المخدرات والبطالة والتسرب المدرسي. فضلاً عن أنها غير آمنة».
للفرنسيين، شرح ناصر كيف غادر الأوزاعي وعاد إليها بعد 42 عاماً. عائلته كانت واحدة من عائلات برج البراجنة التي سكنت في الأوزاعي. في السنوات الخمس التي عاشها هناك، حتى بداية الحرب الأهلية، لم يكن ير سوى شواطئ رملية مترامية تفصلها طريق ضيقة عن البيوت القليلة التي تحيط بها حدائق واسعة. بعد انقطاع لسنوات، عاد إلى «مسقط» رأسه، فلم يجد شيئاً على حاله. العمران العشوائي والتعديات وطغيان الإسمنت على الحدائق والتلوث البيئي وجريان الصرف الصحي، أصابه بالإكتئاب الحاد.
انقطع عن زيارة الأوزاعي «حتى ما شوف شو صار».
لكنها كانت تطارده إلى الجو. أزقتها أول مشهد يراه المسافر العائد إلى لبنان عندما تمر الطائرة فوقها على مستوى منخفض. احتاج وقتاً ليتصالح معها. قرر أن يلوّن مأساتها. دعا 14 رساماً غرافيتياً عالمياً للرسم على الجدران في خمس مناطق في ضواحي بيروت. على نفقته الخاصة، وصلوا قبل سنة ونصف، من بينهم الأميركي ريتنا. كزملائه، رسم ريتنا في برج حمود وفسوح (الأشرفية) والكولا والجعيتاوي والأوزاعي. قرر ناصر منح جهوده وإمكانياته لمسقط رأسه. الحي الذي ولد فيه صار اسمه «أوزفيل». رسومات الغرافيتي تقودنا من الشارع العام المكتظ نحو البحر. ورشة الطلاء مستمرة، تجري تحت الطائرات التي تهم بالهبوط وعلى وقع «زقزقة» الدولة التي ثبتت آلات تقلد أصوات العصافير لتهريب النوارس التي جذبها مكب الكوستا برافا. تستطيع الألوان أن تعدل مزاج الفرنسيين عن الأوزاعي. لكن روائح الكوستا برافا ومصب المياه المبتذلة بقيت أقوى. «نحن نستقبل مجارير الأغنياء» يقول ناصر.
بكفيا ـــ الأشرفية ـــ الأوزاعي
إلى الأوزاعي، يحضر ناصر من منزله في مبنى «سكاي غايت» في الأشرفية. ومن بكفيا يحضر ويليام قشمعي. ومن بيروت تحضر إيفا. الأخيران، ومن دون معرفة مسبقة بناصر أو الأوزاعي، تطوعا في المبادرة. ويليام رسام كان على وشك مغادرة لبنان إلى «مكان يبعث على الأمل أكثر». اكتفى الشاب بجرعة الأمل التي بثها ناصر والود الذي قابله به أهل المنطقة: «كل يوم أتناول طعام الإفطار في بيت».

لا يعني الأوزاعيين تشبههم بـ «وينوود» في ميامي أو «باشويك» في بروكلين الأميركيتين، أو بأحياء الصفيح الشعبية في أميركا اللاتينية. تقبلوا «أوزفيل» على بساطتها ومحدوديتها التي لا تخرق الحيطان. مبادرة ناصر ليست محاولة التغيير الأولى التي طرحت على الأوزاعي. شركة «إليسار»، شقيقة «سوليدير»، التي خططت لإعادة ترتيب المنطقة البحرية من السمرلاند إلى الكوستا برافا، كانت تنوي إزالة الأوزاعي الحالية من الوجود. خططت «إليسار»، في مشروعها الأول عام 1995، لإخلاء السكان ومنحهم تعويضات، قبل أن تعدل مخططها بتشييد مجمعات سكنية بديلة لإيوائهم. في ذلك الحين، بحسب إحصاء الشركة العقارية، كان عدد المساكن غير الشرعية يبلغ 13912 مسكناً، إلى جانب 1510 متاجر، و1679 مشغلاً موزعة في الأحياء السبعة للمنطقة.
تلك الأرقام تزايدت في السنوات الأخيرة، بعدما أضاف البعض طبقات وغرفاً إلى منازلهم بطريقة شرعية وغير شرعية. «إليسار» أثارت «نقزة» أهالي الأوزاعي من تغيير ديموغرافي كان يستهدفهم لترك المنطقة للمنتجعات السياحية. لكن مبادرة ناصر أعادت إليهم الأمل بأن ثمة في الأوزاعي ما قد يستحق العيش فيها. أنفق ناصر على مبادرته 97 الف دولار حتى الآن. أبلغ الأهالي أنه غير قادر على إنفاق المزيد. البعض تطوع للتبرع. منهم علي الذي تعهد بادخار دولار يومياً لدعم المبادرة واستكمالها لتشمل أرجاء الأوزاعي كافة. «كانت المنطقة فظيعة ولا أحب السكن فيها. الآن تغير الوضع».