صحا سكان الكيان الغاصب على صفارات الانذار ذلك الإثنين المشؤوم، في الخامس من حزيران 1967. لم تكد تحلّ الثامنة صباحاً، إلا وطائرات العدوّ تُغير على القواعد الجويّة المصريّة. خلال ساعة كانت إسرائيل قد شلّت سلاح الجوّ المصري، وبدأ الاجتياح البرّي على جبهة سيناء. بعد قليل ستبدأ المواجهات مع سوريا والأردن.
لن تنفع الرادارات، ولن يشتغل الدفاع الأرضي، ولن تُستعمل حتّى الملاجئ لحماية المقاتلات الروسيّة التي يملكها الجيش المصري. كان المشير عبد الحكيم عامر يحلّق في الأجواء مطمئناً، برفقه ضيوفه الأردنيين (ما منع استعمال صواريخ أرض ــــ جوّ، حسب الرواية الشائعة)، فلم تتمكن طائرته من أن تحط في سيناء، وأقفلت عائدة إلى مطار القاهرة. «انتظرناهم من الشرق، فجاؤوا من الغرب»، تقول الجملة اللئيمة العالقة في ضميرنا، تماماً مثل حكاية «الأسلحة التي تطلق للخلف» في نكبة الـ 48.
هكذا انتهت «حرب الأيّام الستة»، قبل أن تبدأ. الصهاينة أنفسهم لم يصدّقوا. كانت قياداتهم تتوجّس من هذه الحرب، كما يظهر في مَحاضر مجلس وزراء العدو. في جلسة الرابع من حزيران تخوّف رئيس الحكومة ليفي أشكول من أن تقضي الحرب على المشروع الصهيوني من أساسه. وتوقّع وزير الحرب موشيه دايان مجزرة كبرى يقضي خلالها آلاف الاسرائيليين، فيما تقتحم الدبابات المصريّة القدس وتل أبيب. لكن ساعات قليلة كانت كافية لتبديد خشية العدو.

شيء وحيد تغيّر: أسطورة «العدوّ الذي لا يقهر» تحطّمت في لبنان وفلسطين

الأيّام الباقية ستكون لاستكمال السيطرة الميدانية، بمؤازرة قرارات مجلس الأمن اليوميّة، لتثبيت الوضع العسكري الجديد على الأرض.
كان أحمد سعيد ما زال يزمجر من «إذاعة صوت العرب» في القاهرة: «سنرميهم في البحر». وفيروز تغنّي على أثير إذاعتي بيروت و«دمشق» أغنيتها «الآنَ الآنَ وليس غداً». لكن «الآنَ… الآنَ» تأجّلت «قليلاً». تعاقبت الهزائم والانهيارات، ونحن نبحث عمن «يدكّ الأسوار». الخامس من حزيران أعلن ولادة الكابوس العربي الذي لم ينتهِ من الانتهاء. خمسون عاماً ونحن نحمل الجرح. عنوان كل هزائمنا السابقة واللاحقة… وعند هذا اليوم المفصلي، وُلدت بوادر المشروع الاستسلامي لـ «النظام العربي» الذي بلغ ذروته اليوم. هذا المشروع الاستسلامي هو الذي أخذنا (متجاوزاً فولكلور «نصر تشرين»)، من «كامب دايفيد» إلى «وادي عربة»، ومن «أوسلو» و«مدريد»… إلى الخيانة الخليجية المبرمجة في مستقبل قريب.
خسرنا الحرب بشكل مذل، ثم تحايلنا على اللغة كي تستر عارنا. «الهزيمة» النكراء صارت «نكسة»: 25 ألف شهيد، 45 ألف جريح، خمسة آلاف أسير، و400 ألف لاجئ من السويس في مصر، ومن القنيطرة وسائر الجولان، ومن الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، ناهيك بتدمير الجزء الأعظم من الترسانة العسكرية في مصر. والأخطر، تدمير معنويات الشعوب العربيّة، وترسيخ مقولة «إسرائيل، العدوّ الذي لا يقهر»! خسر العرب، واستقال جمال عبد الناصر، لكن الجماهير رفضت تنحيّه، فعاد إلى السلطة بعدما فقدت الاسطورة شيئاً من هالتها… الحلم القومي الكبير كان قد تصدّع. غيّرت «إسرائيل» في هذه «الحرب الخاطفة»، حدودها المتفق عليها في هدنة 1949، وضمّت إليها برمشة عين سيناء والجولان وقطاع غزّة والضفّة الغربية والقدس الشرقيّة. القدس التي يريدها العدو عاصمة لكيانه، سرعان ما بدأ بتغيير معالمها، ضارباً عرض الحائط بالتحذيرات البريطانيّة والغربيّة. وفي 22 تشرين الثاني من عام النكسة، ستضرب إسرائيل عرض الحائط بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 الذي ينصّ على الانسحاب من الأراضي المحتلة في حرب الأيام الستة، وإنهاء مشكلة اللاجئين.
كان العرب يتطلّعون إلى استعادة فلسطين، وتصحيح الخطأ التاريخي الذي ارتكبوه في 1948… لكن «إسرائيل» هي التي «صحّحت»، في ستّة أيّام، خطأ بن غوريون الذي قبِل بالهدنة قبل أن تحتل عصاباته كامل فلسطين. الفرق بين «النكبة» و«النكسة»، أن الغزاة الصهاينة لم ينجحوا هذه المرّة في تهجير أصحاب الأرض وطردهم وقتلهم، فاحتلوا مناطق يسكنها قرابة مليون ومئتي ألف عربي. قبل الخامس من حزيران، كان شعار العرب استرجاع فلسطين ومحو آثار النكبة، بعده صاروا يطالبون بما خسروه حديثاً. قبلت القيادة الفلسطينيّة بمبدأ «الأرض مقابل السلام» في «مؤتمر مدريد». وصارت تفاوض على 22 في المئة من فلسطين، وطموحها العودة إلى حدود ما قبل 5 حزيران 67. لكن حتّى هذا المطلب بات محالاً بالوسائل المعتمدة، وفي ضوء توازن القوى، وانحياز الغرب الفاضح، وضعف القيادة التي تمثّل الشعب الفلسطيني، وتراكم التنازلات، ولامبالاة الأنظمة العربيّة، بل تواطئها السافر على شعوبها وعلى الحقوق القوميّة. فكيف بالأحرى بعدما انقلب «الربيع العربي» حروباً أهليّاً، وعصبيّات مذهبيّة، وردات تكفيريّة؟ بعد أن قدّمت السلطة الفلسطينيّة الآتية من رحم أوسلو، كل التنازلات، ها هي إسرائيل تتذرّع باستحالة التوصل إلى سلام، في غياب طرف فلسطيني قادر على تطبيقه! قبل الفلسطينيون بـ «السلام»… و«السلام» لم يقبل بهم!
خمسون عاماً. جاءت هزائم كثيرة أخرى، لكن تلك الهزيمة المفصليّة ما زالت تبدو كأنّها تختزن الكثير من الأسرار والاجابات المؤجلة. جاءت كالصفعة لتغيّر مسار الثقافة العربيّة، وتضع الفرد العربي في مواجهة مع نفسه. المسرح تغيّر، والشعر تغيّر، والرواية، والنقد، والفكر، والسينما. لكن الأنظمة بقيت على حالها، ومجتمعاتنا أيضاً. أدونيس أطلق مجلّة «مواقف» ليطرح الأسئلة الممنوعة. نزار قبّاني طلّق الحب، وكتب «الأعمال السياسيّة». كثيرون اشتغلوا على نكء الجراح. سعد الله ونّوس («حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران»)، وبرهان علويّة («كفرقاسم»)، ويوسف شاهين («العصفور»)، وتوفيق صالح («المخدوعون»، عن قصة غسان كنفاني «رجال في الشمس»)، وألفريد فرج («علي جناح التبريزي وتابعه قفّة»)، وحليم بركات («ستة أيام»)، وأمل دنقل («البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»)، وصنع الله إبراهيم («تلك الرائحة»)، وإميل حبيبي («سداسيّة الأيّام الستّة»). ولن ننسى مسلسلات دراميّة، من نوع «ليالي الحلميّة» (أسامة أنور عكاشة)، و«رأفت الهجان» (صالح مرسي)… لكن الهزيمة استمرّت. والنخب العربية مضت في خياناتها وتخاذلها واستقالاتها.
كتّاب وباحثون كثر حركوا مبضعهم في جرحنا الجماعي، من ياسين الحافظ في «الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة»، إلى صادق جلال العظم الذي يختصر كتابه تلك المهمّة الشائكة: «النقد الذاتي بعد الهزيمة». الحافظ رحل مبكّراً من دون أن يُقرأ بما فيه الكفاية، والعظم جرفته وحول «الربيع العربي» التي أضافت إلى هزائمنا الفوضى والانهيار والتراجع إلى ما قبل «نهضة» القرن التاسع عشر. ماذا بقي من ذلك النقد الذاتي، وماذا تعلّمنا؟ لنعد إلى السؤال الأوّل: لماذا خسرنا؟ أهو سؤال عسكري، واستراتيجي؟ سؤال سياسي له علاقة بطبيعة الأنظمة المستبدة الفاسدة التي تحكمنا؟ سؤال مرتبط بالدور الأميركي القميء في دعم إسرائيل بكل الوسائل؟ أم سؤال له علاقة بنا نحن العرب، نخباً وشعوباً، أفراداً وجماعات؟ بمشروع الحداثة المستحيلة، ببنية العقل العربي المتواطئ مع الهزيمة، العاجز عن التجاوز والمواجهة. الأنظمة الفاسدة، جاء الربيع العربي بأسوأ منها… والجيوش النظاميّة القمعيّة المتخلّفة تواجهها اليوم جحافل من العصابات المذهبية والتكفيريّة التي لا تعرف حتّى مكان فلسطين على الخريطة. إذا كنّا هُزمنا قبل نصف قرن، بسبب عجز جيوشنا وتقاعس قياداتنا وتخلف مجتمعاتنا… فماذا نقول اليوم؟ الأنظمة انهارت واستسلمت، والمجتمعات تقسّمت، وامحت الطريق إلى فلسطين خلف ضباب كثيف من التعصّب والجهل... أو من الاغتراب الفكري للنخب الجديدة وأنبياء الليبرالية المسمومة. شيء واحد لم يتغيّر: إسرائيل هي الوحش الذي على الانسان العربي إما أن يصرعه، وإما أن يستسلم له، تماماً كما في الأساطير القديمة. إسرائيل ابنة أميركا البارة، ورأس حربة مصالحها الاستعماريّة في المنطقة، لا تنفع معها إلا المقاومة الشعبية.
شيء وحيد تغيّر مند الخامس من حزيران 1967: أسطورة «العدوّ الذي لا يقهر»، تحطّمت في لبنان وفلسطين على صخرة المقاومة. والطريقة الوحيدة لمحو آثار الهزيمة، والشفاء من هذا الجرح المفتوح... الطريقة الوحيدة لتصحيح 1967، بل 1948، هي تعزيز المقاومة ودعمها، ومواصلة «الكفاح المسلّح»، كما نقول في قاموس الستينيات المباركة. الكفاح المسلّح هو اللغة الوحيدة التي يفهمها العدو الصهيوني. فلننظّم اليوم جنازة من أجل 5 حزيران، في يوبيله الذهبي، ولنستعد بصبر، عبر كل الجهود والتضحيات اللازمة والوعي اللازم، لتنظيم حفلة سمر من أجل الانتصارات الآتية…