في شهر رمضان، تبدو صيدا القديمة كعلبة حلوى. تعبق روائح الحلويات في الأزقة والشوارع الضيقة. في الأوقات الأخرى، لا يتنبه المارة إلى كثرة المحال في الزقاق الواحد. المحال العتيقة والصغيرة لا تسع قوالب المد بقشطة والشعيبيات والقطايف والمدلوقة. يتمدد «الحلونجيون» في الممرات الضيقة لصنع الحلوى وقليها بالزيت. هنا، لا أحد يدقق في الشروط الغذائية والصحية. يُقبل سكان الحارات والزوار على الشراء. يقولون إن لحلوى صيدا القديمة مذاقاً لا تجده في المتاجر الفخمة لأن من يصنعونها كبار في السن توارثوا المهنة عن الآباء، ويتقنونها بعفوية ومحبة.
اعتاد «الحلونجي» محمد دياربي المعروف بـ «بورة»، منذ أن افتتح محله عام 1956، أن يجهز بضاعته الرمضانية منذ الصباح. «ست البيت بتحجز حصتها بكير». يستدرك: «حلويات زمان كانت تضاين وقتاً طويلاً من دون أن تفسد، ولم يكن هناك تبريد». ابن الثمانين عاماً لا يزال مشهوراً بصنع «التمرية» التي اقتصرت صناعته عليها. يقول: «في الأساس، أنا والحلاق أبو حسن البطش آخر من بقي من الطقم القديم في هذا الحي». يشير إلى جاره الذي افتتح محل الحلاقة بعده بثلاث سنوات. وفاة أصدقائهما ليست تفصيلاً عاطفياً فحسب يطاول ذاكرتهما. غياب معظم من عايش صيدا القديمة قبل عقود يؤثر في الذاكرة الجماعية لأجيالها الجديدة. «لمّا نموت، بتموت أخبارنا وعاداتنا معنا»، يقول البطش الذي مرت من تحت يده رؤوس كثيرة. «خذي عادات رمضان مثلاً. كان يجمع الناس على المحبة والصلاة. أما الترفيه، فكان يقتصر على ساعتين يمضيهما الرجال في المقاهي. أما الآن، فالترفيه طغى على كل شيء».
«التمرية» المصنوعة من السميد الملفوف بالعجين والمقلي بالزيت صارت ماركة «بورة» المسجلة. وفي صيدا القديمة، «الماركات المسجّلة» كثيرة: فالمشروبات الرمضانية كالتوت والسوس والخروب والجلاب والتمر هندي تعني محل «الحنون» الذي اشتهر صاحبه أحمد الأرناؤوط وأولاده بإعدادها منذ أكثر من خمسين عاماً. والسحلب يعني محل «أبو زهير حنقير» المتوّج «ملك السحلب» من دون منازع، رغم وفاته منذ 30 عاماً، فيما يواصل أبناؤه مسيرته محافظين على مهلبية الرز ومهلبية القطر والرز بالحليب والرز الجميد. أما راحة الحلقوم، حلوى الفقراء الرمضانية، فتعني محل عاطف الغرمتي (90 عاماً) الواقع في زقاق متفرع من ساحة ضهر المير.
عادة فتح المحال في صيدا القديمة بعد الإفطار، حديثة. في السابق، كانت حركة ما بعد الافطار تقتصر على خروج الرجال لأداء صلاة التراويح في المساجد قبل أن يقصدوا المقاهي لسماع الحكواتي وتناول النرجيلة ولعب الورق وطاولة الزهر. في عام 2004، بعد إنجاز ترميم البنى التحتية، بدأت بعض المقاهي وضع كراسٍ وطاولات في ساحات الأحياء، ولا سيما باب السراي وضهر المير. على نحو تدريجي، باتت صيدا القديمة تستقطب آلاف الزوار في ليالي رمضان بالتزامن مع تنظيم احتفالات للمناسبة في خان الإفرنج المجاور. شهدت الحارات المتواضعة فورة غير مسبوقة وازدهاراً اقتصادياً دفع بعض الأهالي إلى تحويل باحات منازلهم إلى مقاه. باتت صيدا، وخصوصاً أحياءها القديمة، مركزاً لـ «سياحة رمضانية» سنوية، ومقصداً للبنانيين والعرب. في بعض الليالي كانت الاحصاءات البلدية تشير الى تخطّي عدد الزوار عتبة العشرة آلاف. ارتفعت بدلات الإيجار أضعافاً، واشترى مستثمرون من خارج المنطقة محلات كانوا يقفلونها طوال العام ويفتحونها حصراً في شهر رمضان.
كل هذا يبدو اليوم وكأنه من زمن آخر. على نحو تدريجي، بدأت الحركة بالتراجع في رمضان صيدا القديمة. بعض أصحاب المحال والمقاهي رفعوا أسعارهم بنحو مبالغ فيه، ما دفع الرواد إلى البحث عن مقاهٍ بديلة في الواجهة البحرية قبالة القلعة. الأحداث الأمنية التي ضربت لبنان، وبعده حركة أحمد الأسير في صيدا، ناهيك عن الإشكالات التي تتكرر بين بعض العائلات في الأحياء القديمة، فضلاً عن صيت انتشار المخدرات، كلها أسهمت في تقليص الحركة، ودفعت كثيرين إلى نزوح عكسي، إلى خارجها.
زهير حنقير «ملك السحلب»، نقل صالة استقبال الزبائن إلى الخارج منذ ثمانية أشهر، مُبقياً على المعمل في الداخل. شقيقه سهيل الذي يشرف على المحل داخل صيدا القديمة، توقف عن صنع السحلب في رمضان في السنوات الأخيرة لأن «ما حدا عم يفوت»!
الخميس الفائت، نظمت فرقة النوبة الصوفية، في ساحة ضهر المير في صيدا القديمة، رقصة السيف والترس وقدمت أناشيد دينية كجزء من احتفالية رمضانية اعتادت بلدية صيدا تنظيمها كل خميس في رمضان بالتعاون مع الكشاف المسلم، منذ سنة 2004. التقليد يعود إلى أيام ترؤس الشهيد معروف سعد بلدية المدينة، قبل أن يعيد رئيس البلدية السابق عبد الرحمن البزري إحياءه. بإشراف أبو عيسى وأبو محمد خاسكية، الناشطَين في الزاوية الصوفية الرفاعية في صيدا القديمة، عزف وأنشد أعضاء فرقة المحبة التابعة للزاوية، منهم توفيق خاسكية (77 عاماً) المتطوع منذ خمسين عاماً للضرب على الطبل، وزميله سعد بتكجي (60 عاماً) بطل الرقص بالسيف والترس منذ 38 عاماً. مثل هذه الأمسيات، في السنوات الماضية، كانت قادرة على جذب كثيرين إلى صيدا القديمة. لكن، كان واضحاً، الخميس الماضي، أن معظم العشرات الذين تجمهروا من حولهم هم من سكان البلد. السياحة الرمضانية في صيدا باتت من الماضي، وتحتاج إلى أكثر من رقصات الدراويش لتستعيد مجدها الآفل.




فانوس فناس


في الأيام الأولى من شهر رمضان، أيقظ محمد فناس الصائمين في وقت السحور في صيدا القديمة. المرض أقعده في الأيام اللاحقة. السبعيني هو آخر الأحياء من جيل «المسحراتية» القدامى. عباس قطيش امتهن «التسحير» منذ سنوات، بعد أن تدرب على يدَي المسحراتي خضر السالم. لكن اسم فناس التصق بالحارات. ليس من خلال محمد فحسب، بل من خلال والده وجدّه أيضاً. منهما حفظ أسماء الأهالي. اعتاد أن يوقظ كل واحد باسمه. أما الآن، فمعظم السكان إما توفوا أو انتقلوا للعيش خارج الحارات القديمة، وحل مكانهم غرباء. في بيته المتواضع، يعلّق فناس عدة الشغل فوق الحيطان. يعدّها نياشين استحقها بجدارة طوال أكثر من ثلاثين عاماً. الطبل والدف والسيف والترس والجلباب التركي والعباءة العربية وشملة الخصر وقبعة الرأس. ولأن منبّهات الهواتف والساعات تزاحم الحاجة للمسحر، سجل البعض على هاتفه صوت فناس يوقظ الناس «يا نايم وحِّد الدايم».