عزيزي علي الوردي... لو تدري ماذا حلّ بـ «الشخصية العراقية»! | يمكن اختزال المنظور العميق والشامل للدكتور علي الوردي بالمقولة الآتية: «إن سلوك الفرد العراقي هو دالة للتنافر أو التناشز أو الصراع المعرفي بين قيم الحضارة وقيم البداوة في شخصيته». وبذلك استطاع الوردي - ضمن اجتهاده- أن يفسر أسباب ازدواج السلوك أو تعدد الأقنعة وتضارب المواقف في شخصية هذا الفرد على أنّها نتاج لوجود منظومتين قيميتين متباينتين تحركان جهازه النفسي في آن.
المقام هنا لا يتسع لتقديم تقييم شامل لمنظور الوردي، إلا إنه من الجلي أنه أصاب في أطروحته تلك، والتي يمكن تعميمها بالقول إنّ المجتمعات الشرقية قد عانت بالفعل وتعاني قاطبة من مسألة الصراع بين قيم التخلف وقيم التحضر، بحكم التطور الاجتماعي الذي كانت تنتقل به وينتقل بها من عصور الرق والإقطاع والميثولوجيا إلى عصور العلم والتنوير والمدنية. فما زال الإنسان الشرقي عموماً موزعاً ضمن أدوار اجتماعية – قيمية متناقضة ومتصارعة يؤديها دونما وعي كاف بازدواجيتها أو تعارض مضامينها.

ما زال الإنسان الشرقي موزعاً ضمن أدوار اجتماعية – قيمية متناقضة يؤديها دونما وعي


ولذلك، فالفرد العراقي، وهو أنموذج للشخصية الشرقية «الإيجابية»، يكتنز في سلوكه وتفكيره وانفعالاته صراعاً ثنائي القطبية على مستويات عدة متزامنة. إلى جانب صراع «قيم البداوة × قيم الحضارة» الذي ركّز عليه الدكتور الوردي، نجد أن بإمكاننا اليوم أن نقترح ثنائيات أخرى لا يجوز إغفالها دون الخوض في عناصرها التكوينية والوظيفية. ولكن نذكر بعضاً منها على سبيل التوصيف والتوضيح: «قيم التدين × قيم العلمانية»، و«قيم تمجيد العدل × قيم تبرير الظلم»، و«التوجه الجمعاني × التوجه الفرداني»، و«التفكير العلمي × التفكير الخرافي»، و«الدافع الاجتهادي × الدافع النقلي».
وهذا يعني أنّ الدعوة التي توجه أحياناً - أكاديمياً أو ثقافياً - لاستعادة الوردي حرفياً لتفسير أزمة المجتمع العراقي اليوم، ما عادت مجدية إلا إذا جاءت في إطار تطويري لرؤاه الثاقبة لأغوار السوسيولوجيا العراقية. فالتراكم المعرفي الهائل في مجال علمي الاجتماع والنفس خلال الأعوام الخمسين الأخيرة، قد وفّر حزمة من الأطر المفاهيمية والنماذج النظرية المستحدثة التي لا يمكن لأي باحث تأصيلي أن يتخلى عنها في مسعاه لفهم شخصية الفرد العراقي اجتماعياً وسياسياً. على سبيل المثال، أصبح مبحث «الهوية الاجتماعية» واحداً من أغنى المنظورات التي تفسّر جزءاً أساسياً من أسباب الازدواج، بل حتى التعدد في أداء الشخصية الاجتماعية استناداً إلى ديناميات التزاحم الجدلي في الهويات المتجاورة داخل المنظومة النفسية للفرد، من دون الحاجة إلى افتراض منظومات قيمية ذات طابع أنثربولوجي ثابت نسبياً. فالعلوم السلوكية أخذت تشهد اليوم جدالاً فلسفياً عميقاً حول ما إذا كان السلوك البشري - فردياً أو جماعياً- هو نتاج لخصائص نفسية واجتماعية ثابتة نسبياً أم نتاج لمواقف ضاغطة متغيرة. وكلما اشتدت تعقيدات الوضع الاجتماعي وتفرعت مساراته - كما هو حاصل اليوم في العراق- يصبح من غير المفيد تحليلياً الحديث حصرياً عن خصائص شبه ثابتة للناس، مثل سمات الشخصية أو القيم والمعتقدات الاجتماعية، بل ينفتح التفكير تلقائياً نحو البحث عن نماذج نظرية حداثوية لا تنكر حقيقة أن فهم الوضع البشري بات يتطلب تفكيك المتغيرات أكثر من مقاربة الثوابت.
لقد أمسك الدكتور الوردي- بوصفه مبدعاً شجاعاً فريداً من نوعه- بثنائيته الشهيرة، وكرس لها جل تفكيره ومؤلفاته، وأغناها بأسلوبه العلمي المشوق القائم على الشواهد والحجج والمقارنات، مسلطاً شعاعاً كثيفاً على تلك المنطقة المحيرة من الشخصية العراقية. وهنا يكمن سر نجاحه، إذ خاطب المريض بلغة عقلية مشتقة من واحدة من علله التي غالباً ما كان يستشعرها بغموض في وظائفه النفسية ومواقفه السلوكية. ولأجل كل ذلك، فإن النماذج النظرية البارعة التي قدّمها الدكتور الوردي، أمست تتطلب إغناءً وتطويراً وتجديداً لإعادة دمجها في بارديمات فكرية أوسع لتظل محتفظة بجذوتها التفسيرية. أما استحضارها حرفياً اليوم دون تطوير، فليس إلا انتقاصاً منها، لأنها صدرت في الأصل من عقل تنويري ما كان يريد أصنمة أفكاره.
إن نجاح المفكرين الكبار عبر التأريخ، غالباً ما تأتى من إحدى ميزتين أو كليهما، إما بسبب قدرتهم الإقناعية الفذة، أو بسبب الأسئلة الجدالية العميقة التي أثارتها أفكارهم سواء لدى النخبة أو عامة الناس. وأظن أن علي الوردي قد امتلك هاتين الميزتين معاً. ولذلك فإنه يستحق أن تتم استعادته تجديدياً لا صنمياً.
* باحث وأكاديمي عراقي