عزيزي علي الوردي... لو تدري ماذا حلّ بـ «الشخصية العراقية»! | مهما قيل عن الوردي من وجهات نظر متباينة، فقد كان مفكراً عراقياً وعربياً لافتاً، وضع جلّ جهده في علمه الاجتماعي الذي كان منصرفاً إليه بكله، وحاول أن يجعله في مجموعة من الفرضيات التي ظل يلاحقها في كتبه العديدة والمهمة، وما زالت على تباعد الزمن بيننا وبين تاريخ أول وجود لها الذي يرجع لأكثر من نصف قرن، قادرة على أن تنهض بقراءة للواقعة العراقية، وتجد في جوانب كثيرة منها مقبولية.
يتصل جزء كبير من هذه الأهمية بالواقعية من خلال رصد وجهة اشتغالات الوردي، وهي نزعة خطابه الموجّه للعامة، خاصة أنّها لا زالت تحتفظ بالكثير من تقاليدها، التي أشار لها في كتبه المختلفة بوصفها المؤثر الفاعل في كل تغيير اجتماعي، ولا يمكن للعراق أن يخرج من الفضاء الإشكالي الذي هو فيه إلا من خلال الفعل التغييري المؤثر في العامة. لذا تصدى لعقائدها وميولها ودرس أثر الفاعلين فيها، وأرخ اجتماعياً للكثير من تحولاتها، ووقف منها موقف الإصلاحي إلى حد بعيد بقصد إنساني تربض خلفه رغبة في التغيير الذي يخرج بالعراق إلى فضاء الدولة المدنية، التي وجدها حلاً للكثير من مشكلاتها، ومنها ما هو حاضر الآن.
لطالما اتهم الوردي بالتعالي والجرأة على العامة ومعتقداتها بنقده لخطاباتها إلى حد التسفيه. لكن ذلك لم يمنع الوردي من التحدي ولا الرغبة في استمرار التوجه إليها حتى آخر لحظة، فلم يعتزلها أو يعتكف عنها في كل خطاباته مع تنوع اتجاهات هذا الخطاب، حتى تستحيل العامة عنده إلى كل ما حوله من جمهور ونخب ليصبح خاصة وحده. والعامة كانت تستمتع بتلقي الوردي ولم تعزف أو تعرض عن قراءته أو الإشارة إليه أو اقتناء كتبه.

وجد في الوعظية أس البلاء الذي أسهم في تجهيل الأمة وتعطيل مدنيتها وفاعليتها
وقد كان واعياً لهذا الالتفات في وقت مبكر، جعله يهتم به ويحرص على إدامته. وصرّح أنه بخطابه، يتوجه إلى العامة بل يفكر بها مثل نفسه وإن أفكاره إذا أساءت أو جلبت الأذى، فهو له ولجمهوره.
فما المشترك بين الخطابين الذي يغري بتواصلهما على عظم التباعد والتنافر بينهما؟ هل هو لذة التطهير التي يمارسها كلاهما الأول بالكتابة والثاني بالتلقي؟
لقد هاجم الوردي استكانة الجمهور من خلال تسفيه الوعظية التي يتلقى بها الأخير ويطلبها أيضاً، وأفرد لها واحداً من كتبه، فضلاً عن حضورها الطاغي في مؤلفاته الأخرى، فقد وجد فيها أس البلاء الذي أسهم في تجهيل الأمة وتعطيل مدنيتها وفاعليتها. وفي المقابل، رفض الوردي المنهج العقلاني في معالجة الظواهر التي تصدى لها؛ لأنّ أصحابه يعيشون بتصوره في برج عاجي، فهي لا تختلف عنده عن الوعظية التي تنظّر للظاهرة من دون النزول إليها. وإذا كانت الوعظية تحتفي بالشفاهية وهي خطاب منبر، فقد كان الوردي ميالاً إليها عبر فضاءات مختلفة بقصد منه أو دونه، إذ أصبح كتابه أحياناً مشابهاً لفضاء المنبر، وتسللت هذه الوعظية إلى خطابه وإن كانت باتجاه مغاير، بحيث أفاد من آليتها المتوجهة للجمهور مباشرة، وحرص على الوقوف أمام الجمهور بشكل مباشر في الإذاعة والتلفزيون وعبر الصحيفة والندوة والمحاضرة، وتداول ذات القضايا التي كانت مادة حديث الوعاظ، واستعمل أساليبهم في القص والمباشرة مع الواقعة وضمن المثل والأساليب العامية في التداول. هناك مشترك آخر يلتقي فيه الوردي بشيء محبب لدى العامة، وهو التاريخ. إذا كانت العامة تعيش فيه بروح رومانسية وتعيد إنتاج المشاكل التي يعرضها، فقد كان الوردي ناقداً له ومستفيداً منه في تفسير ودعم بعض فرضياته لكثير من الظواهر التي تعرض لها حتى غاب فيه أحياناً، وكاد أن يصبح مؤرخاً وذلك واضح في كتابه «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث».
هذا فضلاً عن الجرأة في مواجهة الخوف في التعرض لسياقات الثقافة، وهو مما تحبه العامة؛ لأنه تعويض لها، فيدغدغ نزوع الثورة فيها، وترفضه في الوقت نفسه؛ كونه يعترض عقائدها ويقض مضجع الاسترخاء فيها، والحب والرفض في آن واحد من الظواهر التي شغلته. كما هاجم الخاصة أو النخبة بفعل تعاليها في خطابها على العامة، ورصد بالذات الهوس بالشعر الذي تسيد على الخطابات الثقافية الأخرى وألغاها، وذلك واضح في كتابه «أسطورة الأدب الرفيع».
كما نجد ترجيحاً لكفة السردية العالية في كتاباته، وهو مما تقبل عليه العامة وترغب فيه، وهي لصيقة بسمة من سمات الأسلوب الوعظي، فضلاً عن التاريخ. فقد كان كل كتاب من كتبه قصة لوحده.
هذا يحقق جزءاً من حضور وفاعلية الوردي، فالواقعة التي قدم دراساته عنها لم تتغير حيثياتها، بل المشكلات التي كانت مدار فرضياته حاضرة غير منقطعة، ولعل الوردي واحد كبير من قلة كانت دراساتهم مبكراً ذات منحى ثقافي، أطل على الواقعة من كل جهاتها، النخبة والهوامش، وهو منحى يجد حضوره اليوم في قراءة الاجتماع الذي كان يعاب عليه في الأكاديمية.
* أكاديمي من كلية التربية الجامعة المستنصرية