في عام 2014، اشترطت الحكومة البريطانية وضع اسم «إسرائيل» (لا فلسطين المحتلة) على الخريطة الواردة في كتاب الجغرافيا، وإلا فلن تصرف هبة مخصصة لدعم شراء كتاب الجغرافيا في المدارس الرسمية. بعد فترة قصيرة، قدّمت الحكومة البريطانية تمويلاً آخر لإعادة النظر في المناهج التعليمية، وأصرّت على تخصيص هذا التمويل عبر مؤسسة تدعى «أديان».
بعد ذلك حصلت أمور مثيرة؛ فقد سيطرت «أديان» على ورش العمل الجارية لمناقشة تعديل المناهج، وبثت فيها ما تعتبره قيم «السلام» و»قبول الآخر»، وضغطت لإزالة كل ما تعتبره حضّاً على العنف من كتب التعليم الاساسي وما قبل الجامعي. في موازاة ذلك، اتخذ وزير التربية السابق الياس بو صعب قراراً في أيلول عام 2016 قضى بحذف عدد من الدروس والمحاور في التعليم المتوسط والثانوي للعام الدراسي 2016/2017. طال هذا القرار محاور ودروس مهمّة للغاية في اللغة وآدابها والكيمياء والفيزياء وعلوم الحياة والرياضيات والتربية والتاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع والاقتصاد والفلسفة... وكانت حجّته التخفيف عن التلامذة وترشيق الامتحانات الرسمية. يومها، ذهب معظم السجال الى مادة الفلسفة التي تم تفريغها من دروس ومحاور رئيسة تتصل بالفلسفة العربية والاسلامية، إلا أن المقص في مادة التاريخ كان أمضى وأكثر إثارة للسجال، إذ جرى حذف 3 حصص (دروس) للسنة التاسعة تتعلق بـ: نشأة الصهيونية، فلسطين في ظل الانتداب البريطاني، الحروب العربية ــ الاسرائيلية، نكبة سنة 1948، حملة 1956 (العدوان الثلاثي)، حرب حزيران (سنة 1967).
هكذا جرى حذف «القضية الفلسطينية» من درس التاريخ، ولم تعد مذكورة إلا عرضاً في حصة واحدة تحت عنوان «الأردن والقضية الفلسطينية حتى 1967». وبحسب قرار الوزير بو صعب، فقد تم الإبقاء على هذا العنوان «كون الأردن على صلة بالنكبة الفلسطينية»!

محاولة لفرض تطبيع ثقافي

مرّ حذف «القضية الفلسطينية» من كتاب التاريخ بهدوء تام، ولم يتجاوز الاعتراض على الخطوة جدران المدارس. فالقضية الفلسطينية تم إسقاطها سابقاً من أسئلة الامتحانات، إذ لم يحصل أن تضمنت هذه الاسئلة على مرّ السنوات أيّ أمر يتعلق باحتلال إسرائيل لفلسطين ومعاناة الشعب الفلسطيني وتشتيته وتاريخ ثورته ومقاومته، مع ما يعنيه ذلك من حثّ الطلاب على تجاهل هذه القضية في الإعداد للامتحانات باعتبارها مسألة غير مهمة وغير مطلوبة في الاستحقاق الرسمي. اليوم، صار الأمر أكثر مباشرة، وباتت المساحة المخصصة للقضية الفلسطينية نصف صفحة في الكتاب فقط، ومرتبطة بالأردن لا بفلسطين، وهذا له معنى كبير في سياقات الاحاديث التاريخية عن حلول للقضية الفلسطينية عبر تذويبها بالاردن.
الاجواء الراهنة تفيد بأن تهميش القضية الفلسطينية وتشويه وعي المتعلمين وحثّهم على التفكير أن إسرائيل ليست عدواً دائماً... قد أصبحت أمراً واقعاً، ولن يتأخر الوقت حتى تُحذف كلياً من كتاب التاريخ، ولا سيما مع ظهور تيار قوي يتسلّح بـ»شوفينية» لبنانية متصنّعة، ويفرض معاداة الفلسطينيين وقضيتهم، بحجة دور منظمة التحرير الفلسطينية في الحرب الاهلية ومقدماتها.
يشرح رئيس مؤسسة أديان، فادي ضو، ما يجري بوضوح تام، إذ يرى أن الحق في مقاومة المعتدي والمحتل يرتبط بما يسمّيه الصفحات المضيئة من تاريخ لبنان الطويل عبر صموده في وجه جيوش كثيرة من المحتلين، كما تشهد اللوحات التذكارية العديدة على صخور نهر الكلب، وآخر هذه المحطات الانتصار على العدو الإسرائيلي وتحرير الجنوب. بالنسبة إليه، بناء التلميذ المقاوم يكون بتنشئته على روح المسؤولية الوطنية الشاملة والمقاومة التي تجمع بين بعد داخلي في بناء المجتمع الصالح والقوي، والتزام مبادئ المواطنة والعيش المشترك، بما فيها الشراكة والتضامن ونصرة المظلوم، وبعد خارجي في الذود عن الوطن وأرضه وحدوده... بهذا المعنى، تروّج «أديان» لمناهج تعليمية تضع إسرائيل خارج سياق الزمن الحالي، وتحشرها في سياق تاريخي طويل من الخلافات اللبنانية على من هو العدو ومن هو المحتل، ومن هو الخائن ومن هو الوطني، من أيام الفينيقيين ربما حتى اليوم.

آراء التربويين: المقاومة حق

قد تكون الحسنة الوحيدة لمرحلة ما بعد اتفاق الطائف أنّها حسمت أن «إسرائيل هي العدو»، ولم يعد الأمر وجهة نظر. لكن اليوم، يستشعر بعض التربويين أن هناك من يريد أن يضع القضية الفلسطينية في خانة الصراع السياسي المحلي وعدم اعتبار مقاومة المحتل والمغتصب قضية حق، ويسعى إلى طمس هذا الحق من خلال تضمين المناهج مفاهيم تربوية تحشر في طيّاتها عناوين فضفاضة، مثل قبول الآخر وحل النزاعات بالطرق السلمية. يسأل الخبير التربوي إبراهيم العزنكي: «ما هي حدود قبول الآخر، وأي النزاعات تحل بالطرق السلمية؟ وهل هذه المفاهيم التربوية أحادية الالتزام؟ فإذا كان الآخر متلبساً بالشر والاعتداء، أيعقل أن يُقبل هذا الآخر؟ هل المطلوب ابتكار مناهج الحمَل في مواجهة الذئب المعتدي؟».
تستوقف نجلا نصير بشور، أستاذة التربية في الجامعة الأميركية في بيروت، شعارات مثل «تجنّب إقحام التربية في السياسة»، وكأن التربية ليست قراراً سياسياً في الدرجة الأولى يحدد هوية المواطن والمعارف والمهارات والقيم التي تريد الدولة أن تنمّيها في التلميذ، في حين أنّ مواكبة التطور التكنولوجي ومهارات التفكير الناقد والإبداعي وغيرها تكون بطرق التدريس وليس بالمضامين، باعتبار أنّ الحداثة لا تعني إلغاء التراث.

الدولة اللبنانية ليست
محايدة تجاه القضية الفلسطينية


برأي ميسون حمزة، المعالجة النفسية وأستاذة الاجتماع في إحدى مدارس جمعية المقاصد، لا يمكن تعليم تلامذتنا مفاهيم إنسانية عالمية مثل «التربية على السلام» من دون أن يكون هناك توازن قوى مع الطرف الذي سنبني معه السلام، فهذا المفهوم يحتاج إلى معرفة موحدة للحق «ما فيني ربي تلميذي على السلام من دون تحديد من هو الآخر، هل هو جاري، أم عدو مغتصب لوطني؟». إلا أن مديرة مركز الأبحاث والتطوير في «المقاصد»، سهير منصور، تخالف حمزة وتتبنّى وجهة النظر الملتبسة، إذ تقول: يجب أن يكتسب تلامذتنا مهارة قبول الآخر في الوطن، وليس العدو، وبالتالي تربيته على أن يسمع آراء غيره من دون أن يتنازل عن أفكاره ومعتقداته (...)، ولكن استخدام مصطلح «مقاومة» التصق بفئة معينة، و«نحن في التربية نريد أن نركز على القضايا الجامعة لا الخلافية».
بحسب أستاذ المواطنية في الجامعة اللبنانية، علي خليفة، «كأن المطلوب من تعليق محور القضية الفلسطينية هو تعليق حال الصراع العربي ـــ الإسرائيلي القائم، في حين أنّ لبنان، كدولة، غير محايد تجاه القضية الفلسطينية، وبالتالي فإنّ مناهجنا، ولا سيما في التاريخ والتربية الوطنية، يجب أن تكون مجسّدة لجميع العناصر المطلوبة لهذه المقاومة بكل أطيافها وأشكالها، وليس العسكرية فحسب».

الموقف الرسمي

من جهتها، تردّ رئيسة المركز التربوي للبحوث والانماء، ندى عويجان، على ما يثار في حذف «القضية الفلسطينية» بالقول «إنّ مشروع تطوير المناهج يحرص على بناء المتعلّم المواطن المعتز والمنتمي إلى وطنه لبنان السيّد الحرّ المستقلّ، والمتعلّق بأرضه، والمتشبّث باعتبار مقاومة كلِّ معتدٍ عليها، وكلِّ محتلٍ لأي شبرٍ منها، حقاً مشروعاً وواجباً مقدّساً». ولكن المركز، بحسب عويجان، يدعو أيضاً إلى سماتٍ أخرى، كالتزام شرعة حقوق الإنسان، التي كان لبنان من واضعيها، وترسيخ قيم العدل والسلام والانفتاح واحترام الآخر المختلف»، معتبرة أن ذلك «يجب أن لا يتعارض مع إعلاء قيمة الفداء والبطولة، بعيداً من الاستسلام والخنوع».
ويشرح مستشار المركز، الخبير التربوي أنطوان طعمة، كيف أنّ العين الساهرة (في المركز) قطعت الطريق على «الخواصر الرخوة»، من دون استعداء، كما قطعت الطريق على كل من سوّلت له نفسه الحديث عن السلام والتطبيع تحت عنوان احترام الاختلاف وحقوق الإنسان. ينتهي تعليق طعمة بتأكيد أن هناك محاولة للتطبيع مع إسرائيل في مناهج التعليم تجري تحت عنوان «الاختلاف»، وبالتالي «قبول الآخر»، إلا أنه يشيد بـ»العين الساهرة» التي سمحت بحذف «القضية الفلسطينية»، ومن يدري ربما تحصل لاحقاً استجابة للضغوط البريطانية، ونجد اسم «إسرائيل» على الخريطة بدلاً من «فلسطين المحتلة».

* للمشاركة في صفحة «تعليم» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]




حزب الله: عمل مشبوه

التعبئة التربوية في حزب الله، كما قال مسؤولها يوسف مرعي لـ«الأخبار»، تقدمت باعتراض أمام وزير التربية السابق الياس بو صعب على ما سمّته «العمل المشبوه في المركز التربوي لجهة تدخل السفارة البريطانية علناً وبلا أي مواربة في صناعة المناهج الوطنية واختيار أعضاء اللجان وتقديم وجبات جاهزة للأساتذة المشاركين. ويشرح مرعي كيف أن «أساتذتنا كانوا يذهبون إلى اللجان ويفاجأون بالمفاهيم الجاهزة، مثل التربية على السلام واحترام الآخر المختلف وقبوله». يقول: «هم لا يريدون أن يكون لبنان في موقع المقاومة للعدو الإسرائيلي ويحذفون كل شيء له صلة بالموضوع». ويستدرك بأنه لا يحلل، بل يستشهد بما قالته عويجان سابقاً لـ«الأخبار»: «في العصر الحالي، إسرائيل تعتبر عدواً ولا نعرف ماذا سيحصل بعد 5 سنوات أو 10 سنوات، وإذا كان هناك لزوم لتسميتها بالاسم في الأهداف العامة، وكان الأمر يتناسب مع المصلحة العامة، فسنسميها طبعاً». ويشير مرعي الى أن مراجعات الحزب للمراجع الرسمية لم تؤت ثمارها، وبقي المشروع مستمراً.






ما هو الدور البريطاني؟

يرى بعض التربويين أن حذف «القضية الفلسطينية» هو استكمال لما حصل في عام 2014، عندما منحت الحكومة البريطانية وزارة التربية هبة مشروطة بتغطية ثمن الكتب المدرسية للتلامذة، باستثناء كتاب الجغرافيا، وذلك لكونه «يتضمن كلمة فلسطين المحتلة على الخريطة وليس كلمة إسرائيل». يومها، استفزّ الموقف البريطاني مشاعر اللبنانيين الوطنية والقومية، ووصف بأنه اعتداء على السيادة الوطنية وكرامة اللبنانيين، فضلاً عن كونه محاولة خبيثة لفرض تطبيع ثقافي مع العدو الصهيوني.
لم يمر وقت طويل حتى سمحت الحكومة اللبنانية بتجيير جزء من وظيفة الدولة في تعديل المناهج التربوية في التربية المدنية والفلسفة والتاريخ إلى مؤسسة خاصة تعمل كمنظمة غير حكومية، هي مؤسسة «أديان»، وتنفّذ برنامجاً عاماً مموّلاً من السفارة البريطانية في بيروت، أي الجهة عينها، وذلك وفقاً لمقاربة ملتبسة في الواقع اللبناني، تحت عنوان «المواطنة الحاضنة للتنوّع الديني» و«ثقافة السلام». يومها، سارعت رئيسة المركز التربوي بالتكليف ندى عويجان إلى القول لـ«الأخبار» إنّ الاتفاقية مع «أديان» محكومة بضوابط الدستور والقوانين والأنظمة والمراسيم التي يحدد مجلس الوزراء في خلالها دقائق المواد وتفاصيلها، والتعاون مع هذه المؤسسة هو ضمن التعاون مع المجتمع المدني.