د. ديمة فاعور كلينغبايل *بشكل عام، تنشئ الدول المعايير الوطنية لتحديد المستويات المسموح بها من متبقيات المبيدات، والعديد من الدول التي تفتقر إلى الموارد اللازمة لإنشاء برنامج وطني خاص بها لتنظيم استخدام المبيدات تعتمد على مجموعة من المعايير الدولية التي وضعتها لجنة الدستور الغذائي لمنظمة الصحة العالمية.

وفقاً للقوانين، يسمح باستخدام المبيدات التي ثبت علمياً فعالية موادها دون إحداث آثار ضارة على المستهلك والمزارعين والحيوانات والبيئة ويتم ترخيص أو الموافقة على استخدام المبيدات بعد تحديد الحد الأقصى للمتبقيات التي لا يمكن تجاوزها في السلع الغذائية أو الأعلاف عند اتباع التعليمات لاستعمالها وتطبيق الممارسات الزراعية الجيدة.
تنبغي الإشارة الى أن تجاوز الحدود المسموح بها لا ينطوي بالضرورة على خطر على صحة الإنسان إذا ما أخذنا بعين الاعتبار طريقة تحديد الحدود القصوى للمتبقيات التي تم تقييمها بحيث يكون التعرض الناتج لها أقل بكثير من الحدود التي تسبب خطراً صحياً حاداً أو مزمناً. لكن ذلك لا يلغي أبداً الحالات التي يتم فيها تجاوز الحدود القصوى والتي قد تشكل خطراً على المستهلك وتستدعي التدخل السريع لسحب المنتجات من الأسواق وإبلاغ المستهلكين بهذا الأمر. إن السبب الآخر والمهم فهو أن معايير الممارسات الزراعية الجيدة والحدود المسموح بها للمبيدات قد تختلف من بلد إلى آخر بحيث يرفض البعض دخول منتجات مطابقة للمعايير إلى بلد يتبع معايير خاصة به وأكثر تشدداً من البلد المصدر، إضافة إلى التعديلات المستمرة في الحدود القصوى المسموح بها قانوناً مما يصعب قدرة بعض البلاد على تطبيق معايير مزدوجة لإنتاجهم الزراعي، وهذا يتطلب اتخاذ إجراءات للتوافق بين الدول العربية مثلاً على الحدود القصوى للمتبقيات وهذا ما يجري بحثه الآن في الاتحاد الأوروبي.

الإرشاد الزراعي؟

إن رفض دولة الإمارات للمنتجات اللبنانية ليس أمراً جديداً. ففي عام 2001، رفضت الولايات المتحدة 27٪ من صادرات المواد الغذائية من مصر والأردن ولبنان وسوريا بسبب عدم امتثال هذه البلدان لتدابير سلامة الأغذية (القذارة والتلوث الميكروبيولوجي، مستويات عالية من متبقيات المبيدات)، ويعود ذلك لعدم وجود قوانين تطبيقية لمواجهة المخاطر الناشئة ومعايير وطنية للممارسات الزراعية الجيدة التي يتعين على المزارعين تنفيذها.

مصادر التلوث ممكنة في جميع مراحل السلسلة الغذائية


في الفترة ما بين عامي 2010 و 2013، تم تنفيذ مشروع ممول من منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) بهدف تعزيز إنتاج وتسويق المنتجات الزراعية اللبنانية وضمان الأمن الغذائي ونظام الجودة والممارسات السليمة. وقد تركز هذا المشروع حول تطوير وتطبيق الممارسات الزراعية الجيدة التي تستهدف ثلاثة محاصيل رئيسية: العنب والحمضيات والتفاح. وقد تطلب هذا الأمر اقتراح تشكيل مجموعة عمل فنية لتيسير اعتماد المعايير الدولية أو الوطنية، وأنظمة ضمان الجودة وسلامة الأغذية والإدارة البيئية من قبل منتجي الفواكه والخضروات وغيرهم من الجهات العاملة في سلسلة الإنتاج الزراعي. ومع ذلك، ولغاية 2016، لم يكن بعد قد صدق هذا الاقتراح. بالواقع، يتم تعزيز الممارسات الجيدة فيما يتعلق بالإدارة المتكاملة للآفات من خلال خدمات الإرشاد الزراعي. ولكن، منذ عام 2005، لم يكن لدى لبنان ميزانية مناسبة لذلك، كما أن الميزانية المعتمدة لم تغطِ هذه المجالات. واعتمد القطاع الزراعي على التمويل الخارجي الذي لا يوفر حلاً مستداماً وقد يؤدي إلى مخاطر عدة مرتبطة بالممارسات الزراعية غير السليمة خاصة في ظل غياب القوانين والمعايير الوطنية.

تلوث في السلسلة

في هذا السياق، نود أن نضيء باختصار على نتائج البحث الذي تم نشره في المجلة العالمية (Food Control,20161) والذي قمنا به (جامعة بليموث في إنكلترا) بالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت وبتمويل جزئي من قبل المجلس الوطني للبحوث العلمية، والذي تناول سلامة المنتجات الطازجة (الخضار) وعينة من المزارع والمغاسل التي يتم بها غسل الخضار قبل نقلها إلى سوق الجملة. فقد أظهرت النتائج مستويات عالية من مؤشر التلوث بالبراز (إسشريشيا كولي E. Coli ) و(الكوليفورم (Coliform في عينات من الخضروات (البقدونس والخس والفجل) التي تم تتبعها من المزارع ومنشآت الغسل في البقاع إلى أكشاك سوق الجملة. وقد تبين أن مستويات الباكتيريا في العينات المأخوذة أخذت بالتزايد من الحقول إلى مرافق الغسل، مما يشير إلى مصادر محتملة للتلوث في جميع مراحل السلسلة الغذائية ومخاطر تلوث في مرحلة الغسل أيضاً التي من المفترض بها أن تخفف من نسبة التلوث. ومما يثير القلق وجود الكائنات الحية الدقيقة (الباكتيريا) المسببة للأمراض (الليستيريا مونويتوجينس (Listeria monocytogenes و(المكورات العنقودية الذهبية (Staphylococcus aureus في %14 و45% من العينات، على التوالي، المتخذة من الحقول وجميع نقاط السلسلة وصولاً إلى المطاعم .

مشكلة في أماكن الغسل

لقد تمت دراسة وأخذ 118 عينة من المطاعم في بيروت في دراسة منفصلة تم نشرها في المجلة العالمية (LWT-Food Science and Technology, 2016). كما تم الكشف عن السالمونيلا في عينة من أماكن الغسل. وعلى سبيل المثال، قد أظهر العمل الميداني أن غسل البقدونس والفجل يجرى في أحواض بنيت بطرق بدائية ولا تتماشى مع المعايير الصحية، وتملأ عادة من مياه النهر أو من الآبار ولكن دون معالجة أو مراقبة نوعية المياه المستعملة أو تقييم المخاطر الميكوبيولوجية. ونتيجة لانعدام المبادئ التوجيهية في معالجة أو تكرير المياه، كانت مياه الغسل متسخة وذات كثافة عالية من التعكر، وغالباً ما ترتبط هذه المستويات المرتفعة في تعكر المياه بمستويات عالية من الكائنات المسببة للأمراض أو الباكتيريا. كما تبين لنا أن غسل الخس كان يتم برش المياه عليه وهو في صناديق مفتوحة ومكدسة في الشاحنات، وعادة ما يتم الاحتفاظ بالمنتجات الطازجة في سلال بلاستيكية توضع في أماكن مكشوفة دون غسلها أو تعقيمها كما تنص شروط الممارسات الزراعية الجيدة.

بماذا نروي المزروعات؟

لا تتوقف المخاطر على نوعية المياه المستعملة في أماكن الغسل، بل أيضاً على استعمال المياه الآسنة غير المعالجة في ري المزروعات. وهذا ما يدفع الباعة إلى تصنيف البقدونس والخس في سوق الجملة بحسب حجمه، فمن الشائع مثلا أن حزم البقدونس أو الخس المروية بمياه الصرف الصحي هي أكبر حجماً وبالتالي أكثر ربحاً. وسأضع هنا بعض الاقتباسات الشائعة على ألسنة المزارعين، فيقول أحدهم مثلاً:
«أنا أعلم أن المياه ملوثة بالنترات والمواد الكيميائية الأخرى، ولكن استخدام مياه الصرف الصحي لا يضر». أو أن يقول شخص آخر: «الخس يعطي حجماً أكبر مع استخدام مياه الصرف الصحي». وهناك رأي يقول: «الصرف الصحي يعطي حجماً أفضل ويقلل من استخدام الأسمدة». أو «أن مياه النهر الملوثة لا تضر، انظر كيف يبدو هذا الخس كبيراً»!.

المعايير والتسمم الغذائي

من المؤكد علمياً أن الكائنات الدقيقة المسببة للأمراض تنتقل إلى المنتجات الزراعية عبر مياه الري والغسل، لذلك يجب أن تكون المياه المستخدمة بعد القطاف ذات جودة كمياه للشرب. وينص ملحق الممارسة الصحية للفاكهة والخضر الطازجة الصادر عن لجنة الدستور الغذائي لمنظمة الصحة العالمية على أن المياه التي تلامس الجزء الصالح للأكل من الخضار النيئة يجب أن تستوفي معايير المياه الصالحة للشرب أو المياه النظيفة التي تفي بمعايير جودة مياه الشرب، وذلك على النحو المبين في المبادئ التوجيهية لمنظمة الصحة العالمية بشأن نوعية مياه الشرب أو المياه التي لا تضرّ بسلامة الأغذية. وعلى سبيل المثال، فإن المعايير الألمانية تفرض حدوداً أشد صرامة مما تقدم أي أن تكون نوعية المياه الصالحة لغسل الخضار النيئة مطابقة لنوعية مياه الشرب.
كما أن تسويق المنتجات الطازجة للخضار والفاكهة في الأسواق العالمية يشكّل تحدياً كبيراً، نظراً إلى التشدّد في المراقبة والتحديث المستمر في المعايير الدولية من مثل تحديث قانون سلامة الأغذية في الولايات المتحدة الأميركية الذي فرض عملية إصلاح شاملة لممارسة سلامة الأغذية، وقد تضمن ذلك إصدار قوانين جديدة تتعلق بمزارع الفواكه والخضروات، ومرافق إنتاج الأغذية، وذلك نتيجة استمرار حالات التسمم الغذائي المرتبطة بتناول الخضار الطازجة والفاكهة والتي شكلت عبئاً متزايداً على المستوى العالمي. وهذا ما لا يدركه الكثيرون في لبنان ربما لأننا لا نسمع إلا نادراً عن حالات تسمم مرتبطة بالخضروات، ويعود ذلك على الأرجح إلى عدم وجود نظام فعال لمراقبة الأمراض التي تنتج عن التسمم وإلى عدم رصدها في المنتجات الطازجة.

* باحثة / أخصائية في سلامة الأغذية




القدرة التنافسية والسلامة

لتحسين القدرة التنافسية للمنتجات الزراعية والدخول إلى الأسواق الأجنبية وتحسين إدارة مواردها الطبيعية، يجب وضع حلول استراتيجية في لبنان بحيث تشمل تنفيذ قانون سلامة الأغذية المصدق عليه، والتحسينات في البنية التحتية، تطبيق معايير الممارسات الزراعية الجيدة للوقاية من التلوث الميكروبي والكيميائي، تنفيذ سياسة في تحسين البنية التحتية للمياه، ورصد نوعية المياه المستخدمة في الري والممارسات ما بعد جني الخضار والفواكه. وباختصار، فالوضع الحالي يتطلب حلولاً شاملة سواء بالنسبة إلى الزراعة أو الإنتاج أو التصدير والتسويق المحلي. وإلى أن يحدث ذلك، فإن المشاريع الحالية لن توفر سوى حلول على نطاق محدود وجزئي وهذا ما يضر بمصلحة لبنان العليا ومصلحة المزارعين والمستهلكين على السواء.