لا يعلم السياح والزوار المتجوّلون في صور القديمة أن الرجل الجالس دائماً على كرسي مدولب، عند مدخل «منجرة» الخشب قبالة ميناء الصيادين، استحضر الفينيقيين في مسقط رأس إليسار. قهر إيليا بربور الموت وهو على قيد الحياة. استبق عجزه بتدريب نجله جورج وأشقائه الثلاثة وعدد من أبناء المدينة على حرفة صناعة المراكب الخشبية. لم ينقذ «الريس» (85 عاماً) محترفه من الإقفال بعدما أقعده المرض فحسب، بل إن وراثة جورج للحرفة أنقذت أبرز معالم صور الفينيقية التي أبحرت منها إليسار ملكة قرطاج.
بعد وفاة والده، وهو في سن المراهقة، اضطر إيليا إلى العمل مع خاله سائساً للخيل لإعالة أشقائه الصغار. وفي سن العشرين، بدأ بتعلم صناعة المراكب في محترف أعمامه.
«الريس» بربور جزء من مسار «الكزدورة» في الحارة القديمة من ساحة البوابة إلى كورنيش الخراب. آخر مصنّعي المراكب الخشبية يداوم يومياً في «المنجرة»، يعاون جورج بالنظر. قبل سنوات، كان يمضي ساعات ممدداً عند رصيف الميناء، يثبّت خشبات مركب بالمسامير ويطليها باللون الأبيض. كل مركب، بحسب حجمه، كان يحتاج إنجازه إلى شهرين على الأقل وعشرات الكيلوغرامات من المسامير التي تطلى بمادة عازلة قبل دقها في الألواح الخشبية. أما المراكب الكبيرة، فكان يمضي عاماً في صناعتها. لم يستخدم بربور خشب الأرز كما فعل الفينيقيون. كان يستورد الخشب الضخم من أدغال أفريقيا. لكن بسبب ارتفاع ثمنه وكلفة استيراده، اعتمد على الخشب المحلي (السرو والكينا والزنزلخت).
تتصدّر صور بربور كتب صور السياحية والتراثية وهو يصنع مركباً على الطراز الفينيقي يحاكي إبحار الفينيقيين حول العالم انطلاقاً من الشواطئ اللبنانية، عرض في البرتغال عام 2003. بعدها صنع مركباً بطول 30 متراً عرض في مهرجان قرطاج. تمايز بربور ليس حديثاً. عام 1970 صنع «إليسا»، أول «يخت» لبناني من الخشب بطول 25 متراً وعرض خمسة أمتار. حتى الآن، لا يزال راسياً في ميناء جونية. فيما ترسو عشرات المراكب التي خرجت من تحت يديه في موانئ متوسطية عدة.
برغم شكوى جورج من واقع الحرفيين في لبنان، إلا أنه لم ييأس ويتحول إلى مهنة أخرى كأشقائه الثلاثة. على درب والده، يسعى إلى حجز مكان له في الداخل والخارج. صنع سفينة فينيقية طولها 30 متراً، ثبت لها أشرعة بيضاء ومجاذيف خشبية على الجانبين. لكنه يتحسر على عدم اهتمام وزارتَي السياحة والثقافة لدعم حرفته، مبدياً خشيته من ضياع إرث الأجداد.