القاهرة | الكتابة عن شاعر مثل صلاح عبد الصبور صعبة. رغم حياته القصيرة، إلا أنه فتاح سكك كبير في الأدب العربي. وليس من المبالغة القول إنّه أتعب من جاء بعده. لم يستطع كاتب مسرح أن يتجاوز منجزه من المسرح الشعري الذي لم يتعدَ خمس مسرحيات.
لا تزال «مأساة الحلاج»، و«مسافر ليل»، و«ليلى والمجنون»، و«بعد أن يموت الملك»، و«الأميرة تنتظر» درراً في المسرح الشعري العربي المعاصر، وكذلك دواوينه الشعرية!
كان صلاح عبد الصبور طفلاً منطوياً، قالت له أمه إنّه لم يعرف البكاء في طفولته، إلا حين كان يطلب حاجة أو يبلل نفسه. كان إذا رفعوه ارتفع، وإذا حطوه انحط. عندما صار صبياً، لم يعرف سوى البكاء، ربما انتقاماً لسنوات صمته. يبكي كلما قرأ قصة عاطفية أو مأساة غرامية، يبكي ليلة من لياليه مع «ماجدولين» في رواية «تحت ظلال العنكبوت». وفي ليلة أخرى، يبكي «سلمى كرامة» في «الأجنحة المتكسرة» لجبران خليل جبران. وفي ليلة ثالثة، يبكي مع عذاب «سيرانو دو بيرجوراك»، أو مع هذا العاشق الضعيف المغمى عليه دائماً: قيس بن الملوح!
فى صباه، تحديداً في العام 1944 كما قال في مذكراته المجهولة التي لم تنشر في أيّ من أعماله، كتب قصيدته الأولى يشكو فيها العالم:
«كرهت الحياة كرهت الحياة
وبعد الحياة كرهت البشر
ويقسو الزمان على العبقري
أهذا جزاء أديب شعر
وشعري يقل وعزمي يذوب
وعمري الثلاث وزدن العشر».
هكذا بدا صلاح عبد الصبور الكتابة، التقت أيامه «في جدائل الشعر وزنارات الخصر» كما يقول بعدما «عاش أعواماً، طولاً وعرضاً، واقعاً ووهماً، وعرف فيها الفقر واليسر، والسجن والحرية، والاخفاق والنجاح، والرحلة والاستقرار، ورهن قلبه عند العيون الخضر تارة، والزرق تارة، والعسليات تارة أخرى والسود مرات ومرات».
في يومه الأول في الجامعة، التقى بها، ولأجل عينيها راح يكتب الشعر. قصيدة كل أسبوع، فقط ليلقيها في الندوة الأدبية التي كانت من روادها. يقول عبد الصبور: «لن أنسى فرحتي يوم قالت لي بصوت خافت وتعبير يختفي وراء الذكاء والحياء معاً إنها تشعر بما أشعر به. كنت في ذلك اليوم أسعد أهل الأرض جميعاً، طفت القاهرة من شرقها إلى غربها، وركبت عشرات الأتوبيسات، وجلست في عشرات المقاهي، وقبّلت أصدقائي جميعاً».
لكن ككل قصص الحب، انتهت قصة ابن السادسة عشر. بعد تسع سنوات التقيا مرة أخرى، ليكتشف عبد الصبور أن «بيننا هوة عميقة»، لكن القصة ألهمته قصيدته «العائد»
«طفلنا الأول قد عاد إلينا
بعد أن تاه عن البيت سنينا
جاء خجلان... حيياً وحزينا».
لفتت القصيدة، ومع قصائد أخرى أنظار النقاد إلى الموهبة الشابة، ليبدأ الطفل الريفي الخجول رحلة المجد بعدما التقى الشاعر كامل الشناوي والناقد لويس عوض. التفتا إلى تلك الموهبة الجديدة ذات النبرة المختلفة عن السائد. من الأول، تعلم صداقة «الليل والحياة والفن». أما الثاني، فكان «الناصح والمعلم، المؤمن بدور الثقافة الاجتماعي، والعاشق للموسيقى الكلاسيكية، ونشدان تجديد الأدب العربي». أشياء ظل صلاح حريصاً عليها دائماً في الحياة والشعر.
ظهر صاحب «شجرالليل» في وقت كان فيه كل شيء يتنفس سياسة، زمن الزحف المقدس الذي تناسبه بلاغة الشعار. لكن صلاح ابتعد عن ذلك. اعتبر أنّ الفن هو «امتلاك ناصية الحلم». اختار الصوت الخفيض، البلاغة العارية، بل كان مهتماً في الأساس بـ «كسر رقبة البلاغة العربية» وفق ما وصفته «جامعة أوكسفورد» في تقرير لها عن أهم مئة شاعر خلال القرن العشرين. لم تكن البلاغة الخافتة، أو الدرامية أو لغة الحياة اليومية هي فقط ما ميز صلاح عبد الصبور، بل قدرته على تحويل المسار الى قبله، كما يقول جابر عصفور: «إنه يبدأ من حيث انتهى السابقون. لا ليسير في الطريق الذى ساروا فيه، بل يخبط لنفسه طريقاً جديداً، ويقتحم بشعره فضاءات مغايرة. فضاءات تحمل من غوايات التحول ما يغري الآخرين بالاتجاه إليها والانجذاب إلى وعودها». كما المسيح والحلاج وأبو العلاء المعري... كان صلاح مهزوماً يحمل صليبه، وهكذا حالنا الآن حيث «الشر استولى في ملكوت الله». عندما هزمت «ثورة 25 يناير» بوعودها وأحلامها، كان صلاح يسير معنا. نقول ما قاله يوماً: «هذا شعارنا/ لا تبكنا أيّها المستمع السعيد/ فنحن مزهوون بانهزامنا».

■ من رسائل صلاح عبد الصبور | للاطلاع عليها انقر هنا