ترك لي صلاح عبد الصبور ميراثاً من الكلمات والموسيقى والشخصيات ما زلت أحتفظ بها. كلمات أرددها بيني وبين نفسي وتصدح موسيقاها في أذنيّ بين الحين والحين. كلمات حزينة جاءت من الشوارع والميادين، من القرى والنجوع بعدما طافت عبر التاريخ والتقت بفلاسفة ومتصوفة، بملوك وشحاذين. عانت كثيراً قبل أن تسقط من فمه بموسيقاها وأحزانها. كلمات تحمل أمراض الإنسانية وحيرتها الوجودية يضعها الشاعر على لسان شخصيات ليس فقط في نصوصه المسرحية، لكن في أشعاره أيضاً. لدى صلاح عبد الصبور دائماً حكاية يخاطب القارئ من خلالها. الكلمات لا تأتي عارية بل ترتدي ملابس الحكاية. كان على قناعة أن الناس في بلاده لا يفهمون الكلام المجرد. لا يعرفون سوى الحكاية منذ ديوانه الأول «الناس في بلادي» حتى الأخير «الإبحار في الذاكرة»، بالإضافة إلى أعماله المسرحية وهو يكلّم الناس بالحكم والأمثال.

وحين أعود إليه الآن وأتجول بين أعماله الشعرية والمسرحية، والترجمات والمقالات النقدية التي كتب معظمها حول الشعر، يبدو لي أحد الرواد الكبار للشعر الحر، أشبه بالمغني الجوال، شاعر الربابة لكنه يرتدي ملابس عصرية ويبشّر برؤية حديثة. نعم رأيته هكذا يغني للحياة والناس، يغني عن الحب والآلم والوجود، عن كل شيء. حاولت أن أقرأه هامساً بعيني فقط كما أقرأ الشعر، فلم أعرف. ووجدتني أردّد أشعاره كما كنت أفعل في الماضي وأنا في صباي. شعرت أنني أقرأ شاعراً شفاهياً أقرب إلى اليوناني هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسة، أو النسخة المصرية لشاعر الربابة لكن ليس بالفطرة، بل الشاعر المثقف الذي جاء في لحظة تاريخية فارقة ليكون أحد رواد الشعر الحر ويخوض المعارك ليس فقط للدفاع عن تطوير الشكل الشعري والتحرر من قيود الوزن والقافية، بل رؤيته للواقع التي تجاوزت جيل الرومانسيين إلى تفاصيل وهموم اللحظة الراهنة. لذلك، جاءت الكلمات في قصائده نضرة، طازجة، تجسّد صورة حية لوجدان الشعب المصري.

جاءت الكلمات نضرة، طازجة، تجسد صورة حية لوجدان الشعب المصري
فيض من الشعر الوجداني بروح فلسفية حزينة، فمنذ ديوانه الأول «الناس في بلادي» خلع الخرقة كما فعل صديقه الحلاج، وقرر الالتحام بالناس ليلتف حوله العامة. على الرغم من الطابع الفلسفي العميق الذي يميز شعره، إلا أن بناء الحكاية كان يسيطر على كل قصائده، فثمة بطل رئيسي في أغلب القصائد. بطل من العامة يعرفه الناس، كأنه يختار منهم من سيلعب دور البطولة في مسرح الكلمات. وعبرت قصيدته الشهيرة «شنق زهران» عن هذا الاتجاه: «كان زهران غلاماً/ أمه سمراء... والأب مولود وبعينيه وسامة/ وعلى الصدغ حمامة/ وعلى الزند أبوزيد سلامة». ثم يصف زهران: «كان ضحاكاً ولوعاً بالغناء وسماع الشعر في ليل الشتاء». ثم يحكي عن زواجه إلى أن يصل إلى الحدث الرئيسي: «مر زهران بظهر السوق يوماً/ ورأى النار التي تحرق حقلاً/ ورأى النار التي تصرع طفلاً/ وكان زهران صديقاً للحياة/ ورأى النيران تجتاح الحياة». ثم يتدلى رأس زهران الوديع، فقد كان زهران صديقاً للحياة، كما كان صلاح عبد الصبور صديقاً للحياة. كتب شعراً للناس والحياة. وحين كتب يرد على أحد منتقديه، قال: «أما نحن فقد ألقينا بقلوبنا في معركة الحياة، ثملنا بانتصاراتها وبكينا انكسارها، وكان شعرنا سكرنا وبكاءنا، ولا علينا من النماذج والتقاليد... اننا نتنفس الحياة بشغف ومرارة ونهدم ونبني ونبشر ونجدف وقد يمسنا الشعر بجناحه فنلتهب، ولن يستطيع أحد أن يحرمنا شرف المحاولة وقداستها وعمقها».
عاش أحد رواد الشعر الحر مثل المغني الجوال، فإذا كان قد تخلى عن عمود الشعر والقافية، إلا أنه احتفظ بموسيقاه. راح يغني للحياة، يكتب عن شنق زهران، وموت الفلاح والناس في بلاده، وفي ديوانه تأملات في زمن جريح يسرد حكاية المغني الحزين، ويعلن عن شخصيته ومهنته: «وصنعتي يا سادتي مغني معانق قيثارتي، فؤادي المطعون بالسهام الخمسة، صندوق سري، خزنة المتاع روضتي وقبري، أزرع فيها جثتي، خلعتها في زمني المفقود». فهو يكتب/ يغني للناس، وكان من الطبيعي أن يذهب هذا الشاعر إلى المسرح. يعود بالشعر إلى أصوله الأولى. مع ديوانه الثالث «أحلام الفارس القديم»، نشر أولى مسرحياته «مأساة الحلاج» عام 1964 ليجد في المسرح ضالته المنشودة في مخاطبة الناس والالتحام بهم والتعبير عن أحلامهم. فكما يتدلى رأس زهران ضحية سلطة الاستعمار، يتدلى رأس الحلاج ضحية سلطة استعمار العقل من قبل الحكام. وفي المسرحية التالية «مسافر ليل»، يصرخ من خلال المسافر المقهور من عامل التذاكر ليعبر عن المأزق الوجودي لهذا الإنسان. كوميديا سوداء كما وصفها هو، والحقيقة أنها مرثية لإنسان هذا العصر. وعلى الرغم من البناء الدرامي المحكم لقصائده، إلا أنه كان يحتاج إلى المسرح ليغني للإنسان، وليجسّد المأساة التي يعيشها هذا الكائن الحزين في كل العصور.
سيظل صلاح عبد الصبور حالة نادرة في الشعر المصري ليس فقط لأنّه أحد رواد الشعر الحر الكبار، وليس فقط لأنّ المسرحية الشعرية أصبحت بواسطته بناءً درامياً مكتملاً محكم البنيان. ولن نبالغ إذا قلنا إنّ المسرح الشعري اكتمل في أعماله الدرامية، لأن هذا الشاعر الذي تأثر بالثقافة الانكليزية، والتراث العربي جسد الروح المصرية في كل أعماله، حتى أنني رأيته أقرب إلى الشاعر الشعبي الذي يغني للإنسان ويبكي عليه في آنٍ، لكن بأدوات وروح هذا العصر.