لم تكن نهاية يومي الأول في المدرسة نهاية استثنائية. دخلت، وكان الطلاب يخرجون من الصفوف مسرعين ليشاهدوا صافرة الإنذار في أحد جوانب ساحة المدرسة حيث تقبع بركة صغيرة يحيطها القصب. كانوا يريدون تشغيل الصافرة لتهيئتها للحرب الوشيكة.
تهتُ في ممرات المدرسة الكثيرة بحثاً عن صف الدراسة. فكرتُ أنّ عليّ الخروج إلى الساحة مع الطلاب. فجأة خرج الصوت مرعباً. كان الطلاب مثل أمواج يضعون أيديهم على آذانهم متجهين نحوي مذعورين وكانوا قد حملوني معهم إلى بركة الماء وأسقطوني فيها. خرجتُ من البركة وأنا صامت. اتجهتُ نحو باب الخروج وهربت من المدرسة. كنتُ قد اعتدتُ في نهاية كل يوم، هناك خلف بيتنا مكان أجلس فيه مصدراً صفيراً هادئاً، منخرطاً في البكاء.

نسيان

لم يكن هذا الرجل الذي يدفع العربة الآن، ذا ذاكرة اعتيادية بل كان كثير النسيان، حتى إنّ زوجته الممددة والمدماة أمامه في العربة كانت تعاتبه كثيراً لأنه كان ينسى إحضار أشياء توصيه بها عند خروجه من منزله. حتى ولداه الراقدان بجانب والدتهما، لم يسلم من احتجاجهما عليه لأنه كان يرجع خالي الوفاض إليهما. لذا كان يصاب بشيء من الوسواس عند خروجه من البيت، ويظل يفكر ويتساءل فيما عليه أن يجلب معه عند خروجه أو هل نسي شيئاً في بيته.
هذه المرة وهو يغادر بيته الذي تهدمّ بفعل القصف دافعاً زوجته وولديه، فكرّ أيضاً في احتمال أن يكون قد نسي شيئاً، لكنّ شعوراً بالراحة والسعادة غمره في أنه أخرج كل شيء يملكه. نعم، لم ينسَ شيئاً هذه المرة.

ابتسامة

عندما وُلدت ابنة عمي مريم مشلولةً، ابتسمتْ.
عمي لم يبتسم بعدها أبداً. كانت جسداً صغيراً أجوف محشوراً في الفراش خمسة عشر عاماً.
لم تُدرك الأصوات ولا الإيماءات.
لم تهتز ولم تبك.
كانت تعلوها تلك الابتسامة التي تزداد في كل يوم وفي كل عام. العينان أخذتا بالابتعاد عن الأخرى، الجسد بدأ ينفصل ويتنافر.
ذات يوم وقف عمي أمامنا، على وجهه كانت ابتسامة مريم.

طرق

كان الناس يدخلون إلى مديرية الأمن العامة في الأيام التي تلت احتلال العراق. بعضهم كان ينهب الأثاث ويبعثر الأوراق، بعضهم كان يحفر بحثاً عن مقابر جماعية. ما أثارنا أبي وأنا أنّ بعضهم كانوا يطرقون الجدران ويصيخون السمعَ، ويقولون إن ثمة رداً على طرقاتهم في الجدار. قال أبي إنّ الديكتاتور كان يفعل فعلَ الخلفاء العباسيين، فيغيبُ أجساد معارضيه خلف الجدران.
بعد أيام، هدموا البناية وأصبح المكان حفرة ضخمة خالية من الأسرار.
خرجنا ورحتُ أطرقُ طوال الطريق وأصيخ السمع، طرقتُ الهواء والسيارات والجدران وبيتنا وكل شيء، وفي كل مرةٍ كان ثمة طرقٌ على الجانب الآخر.

حوار

كانت خالتي تستندُ على الحائط، يدخلُ زوجها والسيجارة في يده، ينظر إليها ببرودٍ ويقول: بعض الطيور مفقودة، هل رأيتها؟
تجيبُ خالتي: أنت تعرفُ إجابتي على سؤالك هذا، وستخرجُ إلى بيوت جيراننا وستسألهم عن طيورك.
خالتي وزوجها لم يتكلما منذ أحد عشر عاماً سوى هذا الحوار الذي يتكرر بعد أن ينزل زوجها صباحاً من برج طيوره.
أصيبت خالتي بالسرطان وكان زوجها يراقبها بكبرياء وهي تفقد أعضاءها ويتساقط شعرها بفعل العلاج حتى توفيت.
في الصباحات التي تلت موتها، كان زوجها يدخلُ غرفتها والسيجارة في يدهِ، ينظرُ إلى مكانها الخالي ثم يقول: بعض الطيور مفقودة، هل رأيتها؟
يجلس مكانها ويستند على الحائط وينظر الى الأمام ويقول متلعثماً: أنت تعرف إجابتي على سؤالك هذا.

* كاتب عراقي