السجال الذي فُتح في مجلس النواب أمس حول أسبقية الاستراتيجية على القانون في موضوع إدارة النفايات، ليس تفصيلاً. على الاستراتيجية أن تفسّر لماذا لدينا مشكلة في النفايات وأين الأخطاء وكيف يمكن تجنّبها أو التخفيف من أثرها أو معالجتها ووفق أية رؤية ومعايير.
على الاستراتيجية أن تعرض المعطى من المشكلة وكيفية تشكّلها وتحولها ودرجة خطورتها، أن تحدد الخلفية والواقع والرؤية المستقبلية، أن تتصف بالشمولية وتنظر إلى المشكلة من كل جوانبها، وأن تتوسع في شرح ما يسمى "الأسباب الموجبة" في لغة القوانين. على الاستراتيجية أن تحدد المبادئ التي يُفترض احترامها في عمليات التشخيص والمعالجة وأن تجد التبريرات الكافية والضرورية لكل خيار… تمهيداً لترجمتها في القوانين والمراسيم التنظيمية.
لم تكن فكرة المطالبة بحلول عملية سريعة واستبعاد تلك الاستراتيجية طاغية في ندوة مجلس النواب أمس كالعادة، لا بل انعدم الكلام حولها، خصوصاً عندما أظهرت الكلمات الرئيسية والأيام والتجارب، أن لبنان لم يخرج حتى اللحظة ومنذ نهاية الحرب الأهلية بداية التسعينيات من خطط الطوارئ في إدارة ملف النفايات، وأن الأوان قد حان فعلاً للبدء بالتفكير الاستراتيجي ووضع الإطار القانوني والمؤسساتي لإنتاج استراتيجية لعشرين سنة على الأقل، مع خريطة طريق، تحدّ من تزايد حجم النفايات أولاً، وتخفّف من هذه المشكلة قبل أن تتراكم، وقبل البحث في تقنيات المعالجة، القديمة منها والحديثة.
الأفكار المنادية بالحلول العملية والسريعة كانت خافتة أيضاً، ربما لأن جو الندوة والنقاش وعنوانها الرئيسي "الاستراتيجي" الذي يُطرح للمرة الأولى في مجلس النواب، هو الذي طغى. وربما لأن الأيام قد أثبتت أن طريقة التفكير بالحلول السريعة وحتى "التفكير العملي" الطاغي في لغة الأعمال والذي ترك بصماته وسحره على قيم ومعتقدات المجتمعات، هو المسبب الرئيسي لولادة "المجتمع الاستهلاكي" وظهور وتفاقم مشكلة النفايات على المستوى العالمي والمحلي.
في الحصيلة لم تتطلب الفكرة القائلة بضرورة أن تسبق الاستراتيجية القانون الكثير من الجهد لإقناع الأكثرية المشاركة، إنما بقي هاجس المهل للوصول إلى الحلول ونهاية القدرة الاستيعابية لخطة الطوارئ الجديدة (مطمرا الكوستابرافا وبرج حمود)، هاجساً واقعاً على معظم المتداخلين مباشرة أو تلميحاً أو استبطاناً. ولكن هذا المنطق كان السائد هو نفسه عام 1997، يوم شاركنا في نقاش ما كان يسمى آنذاك الخطة الطارئة، وأعيد التذكير بضرورة وجود استراتيجية وقوانين في كل مناسبة، وقبل وبعد كل أزمة. فما الذي تغيّر اليوم ليصبح هذا المنطق مسموعاً؟ هل هي الأزمة السابقة بحدّ ذاتها التي تفاقمت بعد إقفال مطمر الناعمة والتي ولدت أزمة أكبر من انعدام الثقة وشيطنة أي طرح أو حل أو فكرة؟ أم توقع أزمة أكبر بعد سنة؟ أم هو التدخل الدولي بعد دخول الأمم المتحدة للبيئة على خط المساهمة في وضع هذه الاستراتيجية؟
مهما كانت الدوافع والاعتبارات، هناك جو جديد وجدية في النقاش ظهرت في ندوة المجلس، إن كان عند معظم أعضاء لجنة البيئة ورئيسها، أو عند وزارة البيئة والوزير الذي أعطى نفسه مهلة سنة ونصف سنة لإنجاز الاستراتيجية والقانون... بالإضافة إلى رأي الشركاء المشاركين من المجتمع المدني واتحادات البلديات والكثير من البلديات والخبراء والتقنيين وبعض القطاع الخاص، بالإضافة إلى وزارتي الداخلية والبلديات والتنمية الإدارية. وإذا استمر التعاون البنّاء، يمكن تقصير المهلة إلى 6 أشهر لإنجاز هذه الاستراتيجية، بعد أن تكون نضجت هذه المرة من حصيلة النقاشات بين كل الأطراف المعنية المذكورة وغير المذكورة.
إنّه تحدٍّ جديد وجدي أمام الجميع هذه المرة، للخروج من حالة الطوارئ التي دامت منذ نهاية الحرب الأهلية وحتى هذه اللحظة، ولا خلاف بعد ذلك على كيفية تشكيل الهيئة الناظمة أو أي شكل آخر للإدارة، وعلى أن يتم احترام مبدأ التجنب (والتخفيف) كمبدأ في رأس سلم الأولويات وكمعيار أساسي في تقييم التقنيات، الذي في حال تطبيقه يمكن أن ينخفض حجم النفايات أكثر من 30% من حجمها الحالي، من دون الحاجة إلى الكثير من النقاشات حول التقنيات والمزيد من المواقع والأكلاف على الاقتصاد الوطني والبيئة والصحة العامة وعلى الأجيال القادمة وحقوقها...إلخ.

* للمشاركة في صفحة «بيئة» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]