إذا كان المعلم الروسي تزيغا فيرتوف، أبو السينما التسجيليّة، قد ثبّت مصطلح «الرجل ذو الكاميرا»، فحين نتحدّث عن هادي زكّاك يمكننا ببساطة أن نشتق له لقباً موازياً: «الحكواتي ذو الكاميرا». إنّه السينمائي الشاهد. «الشاهد» تأخذنا إلى المشاهدة، وأيضاً إلى الشهادة. يصنع الأفلام ليشهد.
كل مثقف ومبدع وأديب وفنّان، وسينمائي تحديداً، هو «شاهد» بشكل من الأشكال. لكن هذا المخرج اللبناني الشاب بالذات، حرفته وهوايته أن «يشهد». يذهب إلى الماضي، ماضينا المشترك وماضيه الحميم، ينبشه، يحييه، يعيد تركيبه. فالتوليف أساسي في أعماله. يروي لنا الحكايات على طريقته، معيداً توظيف المواد الأرشيفية بديناميّة جديدة، خاصة، سرديّة، متخيّلة غالباً. معه نتحوّل بسرعة من التوثيق البحت، إلى التوثيق الابداعي، ويمكن أن نغامر بمصطلح: «التوثيق الروائي».
شاعر الأرشيف هو، هادي زكّاك. يغوص في مناجم الوثائق، ويصنع منها قصصاً. يقتفي أثر الصور والأشياء، الوجوه والكلمات والأماكن، يتلمّس بصماتها على ذاكرتنا الجماعيّة. يُنطق الوثيقة، أو المادة الأرشيفيّة، أكانت صورة قديمة بالأبيض والأسود، أو لقطة من أفلام «الأحداث اللبنانيّة» («المناظر» كما كنّا نسمّيها في سينما الطفولة لأنّها تسبق عرض الفيلم)، أو مجرّد سيارة. يجعلها، كل مرّة، تروي حكايتنا، تاريخنا المكتوم، ذاك القابع في ظل التاريخ الرسمي المكرّس. وإذا كانت الحرب الاهلية اللبنانيّة من تيماته الأثيرة، وكمال جنبلاط بطله الخفي، فهو يروي الأحداث (والأصحّ يعيد روايتها) من موقعه في الهامش، بعيداً عن الرواية الرسميّة. يروي بحساسيته، بذاتية تخصّنا جميعاً، وتأسرنا. بشاعريّة مدهشة كما أسلفنا. يقارب الحنين، لكنّه لا يسرف في استعماله. يحيي الماضي لكنّه لا يدعونا إلى تمجيده. عينه دائماً على الراهن حين ينظر إلى الخلف، وحين ينبش كالولد الشقي الصناديق القديمة، ويحركش بها. لكنّه ليس متلصصاً في كل ذلك. أفلام هادي زكّاك تنضح حياء، وهو يتواضع أمام موضوعه حتّى الامحاء أو التماهي. هذا الأسلوب بلغ ذروته مع فيلمه السابق عن «كمال جنبلاط» (2015). لقد نحت الفيلم بمهارة جوهرجي، ونزاهة قاض نزيه، في التعامل مع تاريخنا الاشكالي وأسئلته المعلّقة. وأعاد إحياء القائد التاريخي، جاعلاً إيّاه يحكي لنا مسيرته وفكره. قبل ذلك روى زكاك سيرة الحرب اللبنانيّة على لسان سيارة الـ «مارسيدس» (2011)، صاحبة المكانة العريقة ذات عصر، في فضائنا وحياتنا.
وها هو هادي زكاك مع فيلمه الطويل «يا عمري» (2017) يذهب أبعد من كل ما سبق. فهو هنا، يشتغل على ذاكرته وذاكرة عائلته. والذات حاضرة في مسار هذا السينمائي الذي يترصّد العالم بجوارحه. نتذكّر قصة شهر عسل والديه عشيّة «ثورة الـ ٥٨» («شهر عسل 58»، ٢٠١٣). لكنّ رحلته هذه المرّة طويلة، ومضنية، عبر القرن العشرين، بين لبنان والبرازيل. لقد اشتغل على ذاكرة جدّته هنرييت التي عاشت ١٠٤ أعوام، ولاحقتها الكاميرا حتى النهاية لتحاول أن تلملم أضغاث الحكاية. يوظف كل ما تقع عليه يده: ألبوماتها، وتسجيلاتها، ورسائلها، وأغراضها. يصوّرها على امتداد سنوات وهي تستعيد فصولاً من شبابها وقصص حبّها وعائلتها… بين البيت العائلي والشاليه البحري الذي أمضت فيه أيّامها الأخيرة. يعتمد زكاك الأسلوب الحلزوني، في كتابة فيلمه المتصاعد بشكل دائري، إلى الذروة. يتعمّد التكرار، لالتقاط الزمن الهارب، وتأكّل العقل والجسد والحواس. يلعب بشكل متواصل على الذاكرة في مواجهة النسيان. الذاكرة هي الوثيقة المحفوظة في النهاية، وهي السينما التي تخادع الوقت، وتقاوم النسيان. وكالعادة نكتشف من مشهد إلى آخر، أن ما نتفرّج عليه ليس قصّة زكاك الخاصة كما يفترض، بل قصّتنا. «يا عمري» حكاية لبنان وناسه وتاريخه وتناقضاته وروافده الثقافيّة، من عصر إلى آخر، على امتداد قرن كامل. هذه السيّدة الصغيرة هي أمّنا. وهادي سينمائيّ حياتنا وشيخوختنا. مؤرخ وجداننا الجماعي. لذلك تراه يقف على حدة بين أقرانه في لبنان والعالم العربي.