لم تعد الخيارات حول طرق إنتاج الطاقة الكهربائية قيد النقاش، منذ إقرار ورقة سياسة قطاع الكهرباء في عام 2010، وتبنّي خيار استئجار بواخر إنتاج كهرباء بواسطة الفيول أويل الثقيل (HFO). كانت الحجّة الرئيسة لهذا الخيار حينها، أن هناك حاجة لفترة زمنية محدودة يجرى فيها استجرار كهرباء إضافية إفساحاً في المجال أمام إنشاء معامل إنتاج دائمة تعمل بواسطة الغاز المسال (LNG).
لكن ما حصل هو أن الدولة فشلت في إنجاز الجزء الأكبر من معامل الإنتاج، ما فرض استمرار هذا الخيار المؤقت لسبع سنوات واللجوء إليه اليوم مجدداً لخمس سنوات أخرى. إذ طُرح هذا الخيار مجدداً على مجلس الوزراء أخيراً من ضمن خطّة إنقاذية لصيف 2017، أعدها وزير الطاقة ووافق عليها مجلس الوزراء، مشترطاً أن يكون تنفيذها وفق الأصول والقوانين المرعية الإجراء، أي العودة إلى مجلس الوزراء في كل مرحلة من مراحل التنفيذ.
هكذا تجاوز الجميع مسألة خيارات الإنتاج. سارع وزير الطاقة سيزار أبي خليل إلى إعلان استدراج عروض لاستئجار البواخر، على أساس دفتر شروط لم يُعرض على مجلس الوزراء، ويحصر الخيار بطلب عروض للإنتاج بواسطة البواخر العاملة على الفيول أويل الثقيل. ففي 3 نيسان الجاري، أعلنت وزارة الطاقة استدراج عروض لاستئجار بواخر لإنتاج الطاقة الكهربائية بقدرة تتراوح بين 800 ميغاوات و1000 ميغاوات، وطلبت من الشركات المهتمة الاستحصال على دفتر الشروط من الوزارة في المكتب رقم 402 في الطابق الثاني في وزارة الطاقة (المعروف بمكتب الوزير)، وذلك في مهلة أقصها نهار الثلاثاء 18 نيسان الساعة الثانية عشرة ظهراً، أي مهلة 15 يوماً لتقديم العروض. لكن ما حصل قبل يومين أن سيل الأسئلة الموجّهة للوزارة بشأن الخيارات، فرض عليها تأجيل موعد تقديم العروض لمدّة شهر إضافية من دون أن يكون هناك إعلان واضح لهذا الأمر، إلا أنه تزامن مع «همسات» بين الشركات أن السبب يعود إلى قيام الشركة التركية «كارادينيز» صباح أول من أمس بإرسال باخرة كهرباء إلى غانا وليس إلى لبنان، كما كان قد صرّح وزير الخارجية جبران باسيل قبل أيام. إلا أن مصادر مطلعة أوضحت أن هناك 5 بواخر لدى الشركة المذكورة باتت في مراحل تجهيزها الأخيرة، وسيتم توجيهها إلى البلدان المتعاقدة معها، ومنها غانا وأندونيسيا.

طلب عدد من الشركات
تعديل دفتر الشروط من أجل تقديم عروض «أرخص كلفة»

في هذا السياق، ظهر أن هذا الخيار قابل للنقاش، إذ أن بعض الشركات، التي استحصلت على دفتر الشروط، وجّهت أسئلة لوزارة الطاقة، تنطوي على إمكانية الإنتاج بواسطة الغاز المنزلي (LPG)، باعتباره أرخص بنسبة تصل إلى 38% من كلفة الفيول أويل الثقيل، وأنظف بيئياً. غير أن وزير الطاقة ومستشاريه اعتبروا أن لا إمكانية لشراء الغاز بسبب القوانين التي تشير إلى أنه ليس مسموحاً شراء الغاز من دون وجود خزانات على الساحل اللبناني، وأن هذه الخزانات غير متوافرة حالياً بسبب استئجارها من شركة واحدة (نفتومار) التي تحتكر استيراد الغاز المنزلي إلى لبنان. يزعم العارضون أن لديهم حلولاً للتخزين، إلا أن وزير الطاقة أصرّ على أن هذه العروض غير مقبولة. في المقابل، عرضت إحدى الشركات تأجير لبنان معامل توليد كهرباء عاملة بواسطة الغاز المنزلي من دون أن تكون عائمة، أي أن يوضع المعمل على أراضٍ بالقرب من البحر وتتزوّد بالغاز المنزلي من خزانات عائمة تنشئ على عاتق الشركة أو مباشرة من البواخر التي تنقل هذه المادة، لكن النقاش في هذه المسألة كان مرفوضاً أيضاً للأسباب السابقة نفسها.

ماذا يتضمن دفتر الشروط؟

على أي حال، تفيدُ المعلومات أن كتلة نواب القوات اللبنانية مارست ضغوطاً خلال الأيام الأخيرة من أجل سحب دفتر الشروط من التداول وإعادة عرضه على مجلس الوزراء، فيما أثار رئيس حزب الكتائب، النائب سامي الجميل، ما اعتبره «تفصيل دفتر الشروط على قياس إحدى الشركات»، مشيراً في مؤتمره الصحافي الأخير إلى أن كل ما جرى في استدارج العروض هو شطب اسم الشركة العارضة كي لا يقال إن الخطة تقترح إجراء تلزيم بالتراضي.
يضع دفتر الشروط، الالتزام بالشروط الفنية عنصراً محدّداً لفتح الأسعار، على غرار دفتر شروط مناقصة الميكانيك، التي استُبعدت فيها شركة جودة ولم يُفتح عرضها بذريعة عدم مطابقتها للشروط الفنية، وهو ينصّ على الآتي: يطلب من العارضين تقديم مولدات كهرباء في موقعين؛ الأول في دير عمار والثاني في الزهراني، على أن تكون قدرة كلّ منهما 425 ميغاوات زائد أو ناقص 10%، وأن يكون الوقود المستعمل في الإنتاج من مسوؤلية وزارة الطاقة والمياه بما في ذلك المصدر والكمية والكلفة والتسليم والشحن والتأمين. كذلك، على المتعهد أن يقوم بأعمال الربط الكهربائي
وأعمال إنشاءات مدنية وخزانات… بالإضافة إلى التشغيل والصيانة. وبالنسبة إلى الخبرة يوجب دفتر الشروط تقديم إفادة خبرة عن أعمال في مشروعين مماثلين مكتملين وأن يكون المتعهد مسؤولاً عنهما مباشرة أو ضمن تحالف شركات، على ألا تقل قدرة كل مشروع عن 250 ميغاوات خلال السنوات 3 - 5 الأخيرة. وعليه أن ينشئ ويدير معملاً عائماً في لبنان بقدرة لا تقل عن 400 ميغاوات في كل موقع. ويشير دفتر الشروط إلى أنه لا تتوافر مساحة جغرافية على اليابسة، فيما يجب أن تكون التجهيزات على الباخرة، بما يشمل تجهيزات الربط مع شبكة 220 كيلوفلت. أما وحدة توليد الطاقة، فيجب أن تعمل بواسطة وقود الفيول أويل والغاز الطبيعي (HFO, NG)، وأي عروض مبنية على وقود الديزل أو الفيول الخفيف (LFO) لن تُأخذ في الاعتبار. ومن المسؤوليات على عاتق المتعهد أن يكون لديه قدرة تخزينية للفيول أويل (HFO) أو للغاز المسال (LNG) من خلال خزانات عائمة على المياه، أو أن يقدم تقريراً بالخيارات الأخرى وأن يضمن ملاءمة مواصفات الفيول المعتمد للمولدات التي سيقدمها. وفي ختام الشروط الفنية يذكر دفتر الشروط أن «المتعهدين الذين يطابقون المواصفات المذكورة هم وحدهم الذين سينتقلون إلى مرحلة دراسة عروض الأسعار».

عروض بكلفة أقل ولكن غير مطابقة للشروط

تقول مصادر مطلعة، إن عشر شركات سحبت دفتر الشروط، وتسعاً منها زارت مواقع العمل. إلا أنه كان لافتاً أن عدداً من الشركات زار وزير الطاقة سيزار أبي خليل أو مستشاريه، من أجل الاعتراض على بنود وردت في دفتر الشروط لجهة المهلة القصيرة لتقديم العروض والبالغة 15 يوماً، وعلى حسم الدولة خياراتها بشأن الوقود المستعمل في إنتاج الكهرباء، وعلى الإصرار على استئجار مولدات عائمة على المياه، أي بواخر كهرباء.

تتراوح العروض البديلة بين
خيار المولدات أو البواخر
العاملة على الغاز المنزلي

وبحسب المعطيات المتداولة، فإن عدداً من الشركات طلبت تعديل دفتر الشروط لتتمكن من تقديم عروض «أرخص كلفة»، على حدّ زعمها. شركة APR Energy التي يمثّلها في لبنان عزام وردة، وهي شركة أميركية مملوكة جزئياً من الحكومة الأميركية وتتعاون مع شركة جنرال الكتريك، عرضت على وزارة الطاقة إنشاء معملين لتوليد الطاقة الكهربائية بقدرة تصل إلى 1000 ميغاوات، يتم إنشاؤهما على اليابسة بالقرب من معملي دير عمار والزهراني. المواصفات التي قدّمها وردة عن المعملين، أنهما يولدان الكهرباء بواسطة الغاز المنزلي (LPG) ويمكن تزويدهما بالكميات المطلوبة من خلال خزانات عائمة تتمركز في مواجهة المعمل على البحر وهي قادرة على استقبال الكميات المطلوبة من الغاز المنزلي من بواخر الغاز، وذلك بالاستناد إلى استدراج العروض يوافق على إنشاء خزانات عائمة لتزويد البواخر بالفيول أويل الثقيل. وبحسب عرض الشركة الذي نوقش شفهياً مع وزير الطاقة، فإن كلفة إنتاج كل كيلوات ساعة بواسطة الغاز المنزلي هي أقل من كلفة إنتاجها بواسطة البواخر العاملة على الفيول بنسبة تتراوح بين 25٪ و30٪، أي أقل بما يتراوح بين 471 مليون دولار و565 مليون دولار من كلفة بواخر الفيول المقدرة بحسب خطّة وزير الطاقة بنحو 1.886 مليار دولار.
أما الشركة الثانية التي طلبت تعديلات على دفتر الشروط، فهي شركة F.P.S النروجية التي يمثّلها في لبنان غسان الهبر. عرضت هذه الشركة على وزير الطاقة تأجير بواخر توليد طاقة كهربائية بواسطة الغاز المنزلي. ويتضمن عرضها وجود خزانات غاز على متن الباخرة تكفي لتشغيل المعامل لمدّة تصل إلى 45 يوماً، وهي قادرة على استقبال الكميات من البواخر التي تطوف في البحر المتوسط لتوزيعه على مختلف البلدان. أما كلفة إنتاج كل كيلوات ساعة بهذه التقنية فهي أرخص من كلفة إنتاجه بواسطة الفيول أويل بنسبة 38٪، أي أقل بنحو 716 مليون دولار.

لماذا الإصرار على الوقود الثقيل؟

إذا كانت مزاعم الشركات حول الكلفة صحيحة، فلماذا تتمسّك الدولة بخيار الإنتاج بواسطة الفيول أويل، وأن تكون هي المسؤولة عن شرائه وتزويد المعامل به؟ ولماذا تتمسّك وزارة الطاقة بأن تكون المولدات التي ستستأجرها مؤقتاً، هي مولدات عائمة؟ ألم يكن ممكناً وضع شروط مبنية على خيارات مختلفة؟
يقول خبراء في مجال توليد الطاقة الكهربائية، إن الكلفة الإجمالية لإنتاج الكهرباء مرتبطة عضوياً بقوّة الحرق الذي يوفّره نوع الوقود المستعمل في المعمل، وهذا ما يجعل كلفة إنتاج كل كيلوات ساعة مرتبطة عضوياً بعنصرين:
ــ العنصر الأول هو نوع الوقود المستعمل لإنتاج الطاقة الكهربائية، وهو يمثّل الكلفة المتحركة سواء كان فيول أويل أو أيَّ نوع آخر من الغاز (الغاز المنزلي، الغاز المسال، الغاز الطبيعي). نوع الوقود المستخدم حالياً في معامل الإنتاج سواء تلك المملوكة من مؤسسة كهرباء لبنان في الذوق والجية ودير عمار والزهراني، أو المستأجرة بواسطة الباخرتين من شركة كارادينيز التركية واللتين ترسوان في الذوق والزهراني، هو الفيول أويل الثقيل الذي تشتريه الدولة اللبنانية بواسطة عقود من دولة لدولة من الجزائر والكويت.
سنوياً تشتري الدولة نحو 2.5 مليون طن من الفيول أويل من أجل تشغيل معامل الإنتاج بكلفة وسطية بلغت 900 مليون دولار، وفق الأسعار الحالية لطن الفيول البالغ 360 دولاراً.
مشكلة الفيول أويل الثقيل، أن العقد الحالي مع سوناطراك والكويت ينفّذ بطريقة ملتبسة ما يجعل شركة واحدة في لبنان تحتكر استيراد هذه المادة، وهناك شكوك واسعة من مستوردي المشتقات النفطية، أن هذه الشركة تحصل على سعر النقل مضاعفاً، وقد أثار هذه النقطة بالتحديد مستشارُ رئيس الحكومة السابق شادي كرم في اجتماع عُقد في وزارة الطاقة بحضور الوزير الحالي يوم كان مستشاراً لوزير الطاقة أرتور نظريان. وبحسب مصادر عاملة في استيراد المشتقات النفطية، فإن الدولة تدفع 12 دولاراً إضافياً لكل طن فيول تشتريه بواسطة هذه العقود عبر الشركة المملوكة من لبنانيين. لذا، ثمة من يتمسّك بهذا العقد، وثمة من يريد إخراج الغاز من المعادلة علماً بأن قوّة الحرق في المعمل تزيد بنسبة تفوق 40% عن قوّة حرق الفيول أويل الثقيل.
ــ العنصر الثاني يتعلق بكلفة تشغيل المولدات سواء كانت على البواخر أو على اليابسة. هذه الكلفة هي ثابتة وهي تشمل صيانة المولدات والاستهلاك الذاتي. تدّعي الشركات التي تطالب بالسماح لها بتركيب معامل على الغاز المنزلي، أن كلفة صيانة مولداتها أقل بكثير من كلفة المولدات العاملة على الفيول أويل، وبالتالي فإن هذا الأمر يسمح للدولة بالتفاوض على سعر أقل، فضلاً عن أن مسألة الاستهلاك الذاتي للمولدات أمر يجب أن يقترن أيضاً بمدّة الاستعمال، أي أنه بإمكان الدولة أن تشترط إعادة التفاوض على السعر بعد ثلاث سنوات من تشغيل المعامل، وبالإمكان الاشتراط أن تكون التعرفة تنازلية، أي أن تنخفض تزامناً مع تقدم الزمن على تشغيل المعمل. أي تسعير للكلفة الثابتة على أساس فترة قصيرة سيكون مرتفعاً مقارنة مع التسعير على المدى المتوسط، وهذا ما لم يأخذه دفتر الشروط في الاعتبار، بدليل أن العقد مع شركة كارادينيز التي تؤجر لبنان باخرتي كهرباء لم يلحظ هذا الأمر، فجرى التجديد للباخرتين بالأسعار القديمة نفسها، فيما تراجع عمر المعمل خمس سنوات على الأقل وباتت كفاءته أقل مستوى مما كان عليه في يومه الأول.

ما المطلوب؟

مجدداً، تقف المصالح وصراعاتها حائلاً دون الوصول إلى رؤية واضحة لمعالجة أزمة الكهرباء المزمنة والطويلة. لا شك بأن هناك حاجة لاستجرار كهرباء إضافية على المدى القصير جداً، ولكن بغية تحقيق أي هدف وبأي كلفة. الواضح من التجربة القائمة أن الحلول الترقيعية تعمّق الأزمة وتزيد الكلفة فيما المطلوب واضح: برامج استثمار للدولة تعيد بناء الطاقة الإنتاجية الكهربائية التي يحتاج إليها لبنان الآن وفي المستقبل. ليس في ذلك أي «حزورة»، ولكن اللاعبين هم الذين يضيفون الغموض إلى المسألة كلها. «مرتا، مرتا انت تهتمين بأمور كثيرة والمطلوب واحد»، وهو تغليب المصلحة العامة على حسابات اللاعبين لا العكس.