بعض المواضيع راكدة في المجتمع اللبناني، مع أنها حارّة في كل المجتمعات لأنها تصيب البيوت وأهلها مباشرة. وهو أمر يشي بنوع من الجمود الاجتماعي، إذ أن طغيان المواضيع السياسية العامة يخفي في طياته ضعف الاهتمام بشؤون الناس المباشرة.
من تلك المواضيع، نذكر موضوع الأطفال الصغار، ونقصد بهم الذين لم يبلغوا الثالثة ولم يدخلوا إلى المدرسة بعد. ونتساءل ما هي مسؤولية الدولة تجاههم؟ من أي باب تنظر إليهم وتعتني بهم؟ وكيف تتدبر الأسر، وخصوصاً الأمهات العاملات، أمرها في ما يتعلق بالأطفال الصغار؟
هؤلاء الصغار ليسوا بفئة قليلة. فبحسب التقديرات السكانية المتوافرة لعام 2009 يبلغ مجموع الأطفال تحت الأربع سنوات حوالى 300 ألف طفل ويقدر عدد الأطفال في عمر الحضانة بأكثر من نصف هذا العدد.
أما بالنسبة إلى الخدمات المقدمة إليهم فتفيدنا الأرقام، أنه في عام 2014 كان لدينا ما مجموعه 443 حضانة. وإذا ما حسبنا أن كل حضانة فيها ما يقارب الخمسين طفلاً (وهو رقم مبالغ فيه)، فإن المجموع سوف يكون في أحسن الأحوال حوالى 22 ألف طفل. وهذا يعني أن فقط ما يقارب 15% من مجموع الأطفال في هذا العمر يحصلون على رعاية مؤسسية خاضعة بشكل أو بآخر إلى إشراف. ومن المعلوم أن ثمة أشكالاً أخرى من الرعاية المدفوعة الأجر منها ما يقوم على استقبال الأطفال في البيت، أو على مجالسة الأطفال لساعات معينة، ومنها خدمة المربية المساعدة براتب شهري، وغير ذلك من أشكال رعائية أخرى ولكن لا تتوافر أي متابعة بشأنها، ولا تتطلب إعداداً أو ترخيصاً معيناً.
في كل دول العالم الحديثة، تقوم الدولة برعاية هذه الفئة من المواطنين (نعم مواطنين!) وبوضع خطط وسياسات، وتحاول أن تجاري التطورات النظرية في مجال الطفولة المبكرة، فتكون رعايتها ليس فقط صحية أو اجتماعية وإنما تربوية أيضاً. وهذا ما تجري التوصية به اليوم من قبل العاملين في شأن الطفولة في لبنان.
نحن اليوم إذن في طور المطالبة. ولكن لم أكن أعلم أن هذا الموضوع كان مطروحاً في بلدنا من وقت بعيد، أن هنالك مفكرين قدموا تصورات حول الموضوع تستحق التأمل. في كتاب صادر عن المركز التربوي للبحوث والإنماء حول «سلّم تعليمي جديد للنظام التربوي في لبنان آفاق عام 2000»، نقرأ فيه أن الدكتور جوزف أنطون، رئيس مكتب البحوث التربوية في المركز، كان قد اقترح في عام 1977، أي منذ ما يقارب الأربعين عاماً، مخططاً للسلّم التعليمي في لبنان لحظ فيه مرحلة التربية البيتية (ويسميها أيضاً مرحلة الحضانة) وهي تمتد على ثلاث سنوات (من الولادة وحتى 3 سنوات) ويكون لها مرشدون نفسيون اجتماعيون يهتمون بالأطفال وبرامجهم التربوية، وتجري بشأنها دراسات نفسية اجتماعية حول الطفل والأهل والأسرة على أن يكون لها مبنى مستقل ويكون الترفيع فيها آلياً.
قد يناقش الكثيرون هذا الطرح، ويرونه خيالياً أو فائضاً على قدرة القطاع التربوي. ولكن لن يختلف اثنان على كونه رؤيوياً ومتفائلاً ويعطي الجانب التربوي أهمية كبرى في تناول هذه الفئة. ولكن هذا الاقتراح بقي طي الأدراج ولا أدري إذا كان قد نوقش أو لا. وجرت الأمور بحيث صارت وزارة الصحة هي المسؤولة عن هذه الفئة في الأحوال العادية وفي حالة التهميش والفقر أعطيت الصلاحية لوزارة الشؤون الاجتماعية. أما وزارة التربية فتنصلت من مسؤوليتها لصالح الأهل، ولن يصعب على القارئ أن يحزر أن وراء كل أهل طائفة، وأن اعتبار الصغار مواطنين يستحقون وضع سياسات رعائية وطنية بشأنهم هو مشروع "خطير" ينبغي التخفيف قدر الإمكان من آثاره المناقضة للطائفية.
المهم، هذه المقالة تهدف إلى تحية تربوي متميز، نظر في أحوال الصغار، وسعى لأن تكون الدولة شريكة للأهل ولا سيما الأمهات العاملات منهم في تحمل المسؤولية، فهل لنا من يفكر بمثل ذلك اليوم؟
* أستاذة الطفولة المبكرة في كلية التربية في الجامعة اللبنانية