لندن | العدوان الأميركي على القاعدة الجويّة السوريّة بالأمس لم يكن سوى التكريس الرسمي لسياسة الرئيس الجديد دونالد ترامب الحربيّة الجديدة بعد أقل من ثمانين يوماً على توليه السلطة. وهي سياسة تقوم على نقل الصلاحيات لاتخاذ القرارات العسكريّة التكتيكيّة من ذوي الياقات البيضاء في البيت الأبيض إلى صقور البنتاغون، بعد ثماني سنوات طويلة من تحكم إدارة الرئيس باراك أوباما بتلك القرارات، الأمر الذي يهدد بتصعيد نوعي على جبهات كثيرة، لا سيما في الشرق الأوسط، وأوكرانيا وربما إيران وفنزويلا.
كان هذا التحول في السياسة قد بدأ يعطي ثماراً خلال الأسابيع القليلة الماضية عبر عمليّات نوعيّة (محدودة) في سوريّا ذاتها، وفي اليمن، ومن خلال توسيع نطاق صلاحيّات الجيش الأميركي للتدخّل في الصومال ضمن ما يعتقد أنها استراتيجية – ما زالت غير معلنة - يتبناها وزير الدفاع جيمس ماتيس، وتتركز حول تسريع القرارات بشأن التكتيكات العسكريّة والتدخلات المحدودة وتسليح الحلفاء (أي الإرهابيون الذين تدعمهم الولايات المتحدة في العراق وسوريا واليمن وأوكرانيا) من خلال توسيع صلاحيات القيادات العسكريّة، ودون الحاجة إلى العودة إلى الإدارات المدنيّة أو حتى اللجان الفنيّة في الكونغرس بشأن أي نشاط عسكري تكتيكي.
الرئيس أوباما كان قد فرض خلال فترتيه في السلطة نوعاً من بروتوكول دقيق لإدارة العمليّات في الدول التي لا توجد معها حالة حرب معلنة، إذ يفترض أن يشكّل الهدف خطراً على أميركيين وأن يكون هناك شبه يقين من انعدام فرص حدوث أضرار جانبيّة ضد المدنيين. وحتى عندما كان يتخذ القرار بتنفيذ الضربات، كان ذلك يحدث فقط بعد مداولات مطولة مع لجان من المستوى المتوسط للإدارة، قبل نقلها إلى الكوادر الأعلى ثم مستشاري الرئيس ولاحقاً الرئيس نفسه – الذي تذكر مصادر متقاطعة أنه دائماً طرح كثيراً من الأسئلة قبل إعطاء الإذن بتنفيذ أي هجوم، لا سيما حول المخاطر الاستراتيجية بعيدة المدى على المصالح الأميركيّة في حالة تنفيذ الهجوم -، وهو ما تسبب بنوع من الإحباط بين قيادات البنتاغون واضطر العسكريين إلى استخدام طرق ملتوية للعمل: ففي دعمهم لأوكرانيا مثلاً أرسلت الأسلحة والمعدات في طائرات مموهة، ويتم تسليم الأسلحة المتقدمة بما فيها تلك المضادة للطائرات إلى الإرهابيين في سوريّا من خلال أجهزة الاستخبارات في تركيا والأردن. الرئيس ترامب شطب بجرّة قلم ذلك كلّه مصرحاً للجيش باتخاذ القرارات اللازمة وفق ما يرونه مناسباً. وهو كان قبل يومين قد أقال أقرب مستشاريه وقائد حملته الانتخابية – ستيف بانون – من مجلس الأمن القومي خضوعاً لرغبة صقور البنتاغون وخط الجنرال ماكماستر، الذي أصبح الآن الصوت الأعلى في شؤون الحرب في أميركا، وهو الذي خدم في حروب الإمبراطوريّة في أفغانستان والعراق، ويعرف عنه الميل إلى سياسة القبضة الثقيلة.

المراهنة على
قوى ليبراليّة كابحة في النظام الأميركي
لا يعوّل عليها

الرئيس الجديد الذي يواجه نوعاً ناعماً من تمرد مفتوح في الإدارة الحكوميّة ذات التوجه الليبرالي - ويعاني من عداءٍ غير مسبوق من قبل الصحافة الأميركيّة التي تسيطر على معظمها أصوات ليبراليّة كذلك - كان بحاجة ماسّة إلى تقوية موقفه في السلطة من خلال نسج تحالف مع المجمع العسكري ــ الصناعي الأميركي بوصفه كان دوماً بمثابة دولة عميقة وقلب المنظومة التي تتحكم بالإمبراطورية الأميركية – مهما تغيرت الإدارات الحزبيّة -، لا سيما أن ترامب يدرك أكثر من غيره جهله الشخصي شبه المطلق بالأمور العسكريّة، وانعدام قدرته على التحليل المعمق أو قراءة نصوص أطول من ١٤٠ حرفاً – بحجم (تغريدات) توتير، التي صارت خبزه اليومي.
الصلاحيّات الجديدة بالطبع تأتي بمخاطر داهمة على الصعيد الاستراتيجي. فهي من حيث المبدأ ستطيح بإمكان تحقيق أي نوع من «التفاهم» مع روسيا للسيطرة على الأمن العالمي، وستدفع بالجيوب المفتوحة إلى الالتهاب، مع تقوية شوكة الحلفاء الموتورين في تل أبيب والرياض وأنقرة وعمّان وكييف ودفعهم إلى تصعيد نشاطاتهم الهدّامة، وهو ما يعني مزيداً من الدمار والفوضى والضحايا مدنيين وعسكريين بالأرقام الفلكيّة، ويهدد بتسليم مقدرات دول وطنيّة محوريّة لفوضى المجموعات الإرهابيّة التي كانت أعادت إطلاقها إدارة الرئيس أوباما في إطار حربها على سوريا والعراق.
اليوم نعيش الردة الاستراتيجية من حرب الجيل الرابع التي ميّزت عهدي أوباما (والتي تعتمد إسقاط الأنظمة الوطنية الرافضة للهيمنة من خلال إطلاق حروب خفيّة عبر وكلاء محليين ومستوردين لتأخذ شكل نزاع أهلي توازياً مع دعم ثقيل من خلال صناعة «حقائق» بديلة لإقناع الرأي العام البليد) إلى حرب الجيل الثالث على نسق الغزو الأميركي/ البريطاني للعراق في ٢٠٠٣.
في هذه الحرب تستعرض الإمبراطوريّة تفوقها التكنولوجي الساحق من خلال شيطنة شخص زعيم وطني لدولة صغيرة عبر تلفيقات إعلاميّة وشعارات الأبيض - الأسود الساذجة، ومن ثمّ إبادة ملايين من البشر وتدمير ممنهج لرموز النظام والبنية التحتية والنسق الحضري للدولة المستهدفة بأسلحة غير متناسبة مع قدرة تلك الدول على المواجهة – ستنتهي فقط إلى ما انتهت إليه حرب العراق، وليبيا كذلك: فوضى شاملة، وتدمير مجتمعات ناهضة، وكسر الدولة الوطنيّة لمصلحة تحالف عصابات تدعم نصفها أميركا ذاتها، مع تغييب مقصود لأي صيغة لإدارة مستقبل تلك المجتمعات سوى تركها للمافيات، مع تقبل سقوط مئات قليلة من القتلى الأميركيين (من المجنسين والأقليّات غالباً) - يصوّرون كأبطال قدموا أرواحهم لرفعة بلادهم.
مهما يكن من أمر، فإن المراهنة على قوى ليبراليّة كابحة في النظام الأميركي تتصدى لهذه التحولات الهوجاء في إدارة الحرب لا يعوّل عليه مطلقاً، إذ أبدت معظم الرموز الليبراليّة من هيلاري كلينتون نفسها ونزولاً، تأييداً مطلقاً للهجوم الأخير على سوريا.
وفي انتظار ردة فعل موسكو على اقتراب صواريخ توماهوك من جنودها إلى المسافة ما فوق الصفر بقليل، ودونما أوهام، يبقى صمود الدولة الوطنيّة في سوريا، والجيش السوري ومعه قوى المقاومة المختلفة – رغم تعدد أجنداتها المحليّة – أمل البشريّة الوحيد في مواجهة غربان الإمبراطوريّة البشعة، بعدما فتح الرئيس تاجر العقارات بوابة قفص ذئابه على العالم.