الرئيس الأميركي دونالد ترامب يسعى إلى إعادة الزمن إلى الوراء. ثلاثة أعوام وثمانية أشهر مرّت على تلويح الإدارة الأميركيّة السابقة بضربة عسكريّة ضد سوريا (وما يقارب نصفها على الدخول العسكري الروسي المباشر) يطمحُ الرجل إلى وضعها بين قوسين.
وبعد أن تأخّرت إدارته في الدخول على خط الحدث السوري تاركةً الغموض يلفّ ملامح سياستها في هذا الملف، جاءت «اللحظة المناسبة» لرجلٍ يحب الـ«وان مان شو». لم يشكّل «أستانا» بنسخه المتتالية، ما يثير حماسة ترامب، ولا نجح «جنيف 5» في فعل ذلك، فاكتفت إدارته بلعب دور «المراقب» في انتظار بوّابة مناسبة لصناعة «دخول مبهر». وبرغم أنّ الإنزال الذي نفّذته قوّات أميركيّة خاصّة في ريف الرقّة قبل أسبوعين كان في حد ذاته تطوراً لافتاً في الأداء الأميركي غيرَ أنّ «الإبهار» لم يكن كاملاً بفعل عوامل عدّة، على رأسها أنّه حصل في «الملعب المُباح» الذي تشكله المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم «داعش»، والتي تحولت إلى مطيّة تسمح بدخول كثير من اللاعبين. كل ما لم يتوافر في الطبقة أُتيح في الشعيرات: مطار رئيسي، في وسط البلاد، وفي منطقة قوّة روسيّة وإيرانيّة. صحيح أنّ موسكو كانت قد بُلغت بقرار العدوان قبل حدوثه، لكنّ ذلك لم يخفّف من «وهج الـshow» كثيراً، ولا سيّما أنّ العدوان بدا أشبه بفرصة لتعديل العلاقة بين ترامب والإعلام الأميركي. وسارعت الصحف الأميركية إلى الإشادة بخطوة الرئيس الأميركي. «نيويورك تايمز»، على سبيل المثال، رأت أنّ «لدى ترامب الفرصة ليصحح أخطاء أوباما في سوريا».

موقف أنقرة جاء
ليضع حدّاً لكلّ ما قيل عن «استدارة تركيّة»
لكنّها أشارت في موضع آخر إلى أنّ مؤيديه «من اليمين المتطرف ينقلبون عليه بعد الضربة». فيما أكّدت «وول ستريت جورنال» أنّ «ترامب يُظهر أنه قابل للتصرف بقوة وبسرعة»، كما تحدّثت عن «فرصة ترامب في سوريا». وبفضل «توماهوك» بات متاحاً بدءاً من يوم أمس الحديث عن «تغيير في قواعد لعبة الأقوياء» التي مالت إلى مصلحة روسيا في خلال العامين الأخيرين على وجه التحديد. قواعد، وللمفارقة، كانت موسكو قد استعرضت في سبيل تكريسها فائض قوّة عبر استخدام صواريخ «كاليبر» وقاذفات «توبوليف». وليس المقصود بتغيير قواعد اللعبة تغيّر موازين القوى على الأرض بالضرورة، لكنّه كفيل بتعديلها في المشهد السياسي على أقل تقدير. وليس أدلّ على ذلك من ردود الفعل الرسميّة التي صدرت تباعاً عن الدول المناوئة لدمشق وبحماسة كبيرة مضبوطة على إيقاع ترامب. ولعل أوضح تجليّات «إعادة الزمن الوراء» تلك التي جاءت من أنقرة. وبرغم أن الأخيرة لم تكن العاصمة الوحيدة التي سارعت إلى «الإشادة والمطالبة بالمزيد»، غير أنّ موقفها جاء ليضع حدّاً لكلّ ما قيل عن «استدارة تركيّة» وانتقال إلى المحور الروسي. وليس من قبيل المصادفة أن تختار أنقرة يوم أمس تحديداً، لتعلن اعتقال الطيّار السوري العقيد محمد صوفان الذي أسقطت طائرته في 4 آذار الماضي داخل الأراضي التركيّة. كذلك إنّ المصادفة تبدو بعيدة كل البعد عن النشاط الحثيث الذي شهدته كواليس المجموعات المسلّحة بدءاً من ظهر أمس استعداداً لتحرّك جديد. وعلمت «الأخبار» أنّ معسكرات «هيئة تحرير الشام» (التي تشكّل «جبهة النصرة» عمادها الأساسي) في إدلب وريف حلب الغربي قد شهدت «نشاطاً خارجاً عن المألوف». وأوردت مصادر عدة لـ«الأخبار» معلومات متطابقة عن «أجواء تعيد التذكير بأجواء ما قبل معركة شرق حلب». وإذا صحّت تلك المعلومات، فلن يكون مستغرباً أن تعود الأطراف الغربيّة إلى مدينة حلب مسرحاً لمعركة جديدة تشنّها «النصرة» وحلفاؤها «الجهاديون» من «الحزب الإسلامي التركستاني» وسواه في خلال الأيام القليلة القادمة. ومن المسلّم به أنّ أيّ تحرّك من هذا القبيل لن يكون متاحاً إلا بإيعاز تركي مباشر، وبهدف استثمار المستجدّات في محاولة لتكريس واقع ميداني مختلف. ولا يبدو «داعش» بدوره بعيداً عن أجواء محاولة تجيير العدوان لمصلحته والسعي إلى «تعديل الموازين» في ريف حمص الشرقي على وجه الخصوص. وليس من المرجّح أن يُحدث العدوان الذي طاول مطاراً أساسيّاً في معارك هذه الجبهة تحديداً فراغاً كبيراً بسبب الحرص الروسي على تثبيت «موازين القوة» الميدانية، وخاصة في ظل ما تمثّله جبهات حمص الشرقية من خصوصيّة رمزية لموسكو. وعكست كواليس معظم المجموعات المسلّحة أجواء مشابهةً، بما فيها تلك المنخرطة في مساري «أستانة» و«جنيف». وسمحت المستجدّات لمجموعات محيط دمشق بإظهار «تفاؤل» غاب عنها بعد إحباط هجومها الأخير على العاصمة دمشق. ولم تشذّ معظم تشكيلات معارضة الخارج عن هذا المسار، وعلى رأسها «الائتلاف» الذي «رحّب» وطالب بالمزيد. ومن شأن هذه المعطيات أن ترسم علامات استفهام كثيرة حول مصير «المسار السياسي» الذي يعاني أصلاً من مطبّات كثيرة. وبرغم أنّ واشنطن تبدو حريصة على عدم إغلاق النوافذ مع موسكو، لكن المرجح أنها ستسعى إلى فرض «شروط جديدة». وبدا لافتاً أن وزارة الخارجية الأميركية أشارت أمس إلى أنّ «العمل لا يزال جارياً على جدول أعمال زيارة الوزير ريكس تيلرسون إلى موسكو». لكنّ مصادر دمشق لم تُبدِ حماسةًَ للتعليق على انعكاسات أحداث أمس على «المسار السياسي». وقال مصدر دبلوماسي لـ«الأخبار» إنّ «أي حديث من هذا القبيل هو أشبه بنكتة في ظل العدوان الأميركي السافر الذي كشف كل الأقنعة». فيما قال مصدر آخر إنّ «الطبيعي الآن أن ينصبّ اهتمام دمشق في الدرجة الأولى على محاربة التنظيمات الإرهابية بلا استثناء».