تونس | تمثّل رجاء بن سلامة (1968) إحدى العلامات الفكرية ليس في تونس فقط، بل في المشهد العربي أيضاً من خلال كتبها وأبحاثها حول العشق والتحليل النفسي والدين والإسلام السياسي. كانت من بين أكاديميين قلائل، خصوصاً أكاديميات كألفة يوسف، وآمال قرامي، ونائلة السليني ممن قدن المعركة ضد حكم الإسلاميين في قضايا الحريات الشخصية وحقوق المرأة والمساواة ومجلة الأحوال الشخصية وغيرها من المواضيع الخلافية التي حاول الاسلاميون توجيهها وفق ما يرونه من نمط اجتماعي جديد وغريب على بلاد الكاهنة والطاهر الحداد وبورقيبة.
هذا ما جعلها «المطلوبة» الأولى من صفحات الإسلاميين على شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام القريبة من حركة «النهضة» وحلفائها. لقاؤنا مع صاحبة «الإسلام والتحليل النفسي» يتزامن مع صدور كتاب «المقدّس وتوظيفه» (المنشورات الجامعية في منوبة ـ راجع المقال أدناه) الذي أشرفت عليه بن سلامة. لقاء تشعّب إلى أحلام التحديث وما يشهده العالم العربي اليوم من تطرّف وظلامية ودعوات لإرساء حكم الخلافة.

■ كيف ترى رجاء بن سلامة الإسلام السياسي اليوم وآخر تجلياته «داعش»؟ كيف ستكون علاقتنا بالدين؟ مشاهد كثيرة في حياتنا العربية تذكرنا بالقرون الوسطى الدامية في أوروبا زمن محاكم التفتيش والتكفير ومطاردة الأفكار. نجحت أوروبا في التخلص من هذه الوحشية ونحن نغرق كل يوم فيها، لماذا؟
التشبيه وجيه، لأنّني أعتقد فعلاً أنّنا نعيش مرحلة ما يسمّيه مرسال غوشيه بـ»الخروج من الدّين»، وهي لا تعني نهاية الدّين بل تعني تغيّر علاقتنا به. هو لن يكون نظاماً شاملاً لكلّ مظاهر الحياة، بل مسألة شخصيّة. هذا التحوّل صاحبه رعب محاكم التفتيش والحروب الدينية في أوروبا. ويصاحبه عندنا الرفض المنظّم للحداثة، ومشروع إعادة «شموليّة الدين» عن طريق الإسلام السياسيّ ويوطوبيا إعادة الخلافة وتطبيق الشريعة.

النفاق الدولي
يتمثل في استنكار قطع «داعش» للرؤوس ويستفيد من النفط الذي تبيعه بأثمان زهيدة
لكن يجب أن لا ننسى أنّ الخروج من الدين استمرّ خمسة قرون في أوروبا، أي من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين، ولا ننسى أنّ محاكم التفتيش وصيد الساحرات بدأت منذ القرن الثاني عشر واستمرّت حتى القرن التاسع عشر، فبعض المصلحين الدينيّين أمثال جان كلفان ساندها. نحن نعيش الظاهرة نفسها، لكن بتسارع أكبر، ونحن بصدد دفع الثمن، لكنّنا سنخرج بالتأكيد أو ستخرج الأجيال المقبلة من دائرة الرعب القداسي. يجب أن لا ننسى أنّ أعمار الأفراد أقصر بكثير من أعمار الشعوب والحضارات. فصبراً جميلاً.

■ هل تعتقدين أنّ العرب قادرون على التخلص من سطوة «المقدس» على الحياة اليومية؟
العرب كغيرهم من الشعوب محكوم عليهم بالحداثة. دخلوها لا محالة وهم ينظرون إلى الماضي ويشتمون الحاضر. لكنّ مؤشّرات الحداثة الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية موجودة عندهم. عودة الخلافة في ما يسمى بالدولة الإسلامية ليست سوى مسرحية هزليّة لن تعيد الخلافة حقّاً. هناك انقلاب اجتماعي حقيقي في العالم العربي، تمثّل في خروج المرأة إلى العمل، ما أدّى إلى إلغاء نظام قوامة الرجال على النّساء كما أسّسه الإسلام. ما زالت بعض بلدان الخليج تقاوم هذا التّطوّر، لكنّه آت لا محالة. انظر إلى السلفيين الأزواج في بلداننا كيف يتصرّفون رغم اللّحية والجلباب والنّقاب. سترى أنّهم حديثون في علاقتهم بأبنائهم وفي بحثهم عن وسائل الترفيه. التديّن المبالغ فيه بهلوانيّات تخفي نهاية الدين التقليدي باعتباره نظاماً شاملاً.

■ بدءاً من القرن الثامن عشر، بدأت بوادر التحديث في الثقافة العربية تزامناً مع ولادة حركات التحرر من الاستعمار وصولاً الى ولادة الدولة الوطنية في الخمسينيات، لماذا فشل مشروع التحديث؟
تعرّض التحديث الفكري المسمى بالنهضة العربية لانتكاسة تعود إلى ظاهرتين بحسب رأيي: الرقابة الدينيّة التي مثّلها خصوصاً الأزهر وانهالت على المجدّدين والمصلحين أمثال علي عبد الرّازق وطه حسين ومنصور فهمي وغيرهم. كانت هذه النّهضة المضادّة الأولى. والنهضة المضادة الثانية حملتها طفرة النّفط التي سمحت بصرف 70 مليار دولار في الترويج للوهابية والفكر الوهابي، وأدّت إلى إرساء منظومة التديّن الحالي، من فضائيّات ومنظّمات ودعاة، وإلى انتشار الحجاب في كل الطبقات والبلدان. لكن هناك جزر صغيرة في العالم العربي حافظت على هذا التوقّد الفكري الحداثي، لا سيّما في لبنان وتونس والمغرب. الانتكاسة لم تكن شاملة، وليست نهائية. العالم العربيّ بعد «داعش» لن يكون كما بعدها. هناك تديّن جديد سيفرض نفسه حتماً.

■ الى أي حد يمكن اعتبار الإسلام السياسي والحركات الإسلامية مسؤولة عن حالة الخراب التي نعيشها وتضاؤل مساحات الأمل؟
الإسلام السياسي علامة مرضيّة تدلّ على رفضنا للمصير، وللحداثة السياسية والاجتماعية. إنّه مدّ هذياني بدأ منذ تأسيس حركة الإخوان سنة 1928، وتغذّى بالحركة الوهابيّة التي كانت حركة إحيائيّة هذيانيّة من نوع آخر. ونحن دفعنا ثمناً باهظاً لهذا الرفض الممنهج للحياة وللحداثة.
أقدّم نفسي مثالاً. دخلت الجامعة، فوجدت أمامي «حركة الاتجاه الإسلامي» التي ستصبح لاحقاً حركة «النهضة». وجدتهم في شهر رمضان يسدّون في وجوهنا باب المطعم لفرض الصيام على الجميع. رأيتهم يخفون السلاسل والسكاكين في مسجد الجامعة. لم أستطع بناء شخصيتي وكتابة ما كتبت بمعزل عن هذا العنف. كبرت وجاءت الثورة التونسية. وكبر معي الإسلاميّون، ووجدتهم مجدداً أمامي في حكومة ما بعد الثورة يحاولون تغيير وجهة الثورة ووجه البلاد. لم استطع مواصلة أبحاثي في العشق والتحليل النفسي بمعزل عن هذا العنف المتجدّد. ربما أكون في المحصّلة قد سخّرت الكثير من طاقتي وجزءاً من عمري للاهتمام بالإسلام السياسي على حساب الإنتاج في دائرة الاختصاص الضيق. ربّما تكون هذه خسارة، ولكنّها خسارة مكتوبة عليّ وعلى جيلي. لا أحد يمكنه القفز على التّاريخ.

■ «داعش» اليوم هو التحدي الجديد الذي يواجه أغلب الدول العربية، كيف تفهمين هذه الظاهرة وما هو مستقبلها؟
لا أدري ما هو مستقبلها. ربما تكون هذه الدولة الغريبة وسيلة لتقسيم البلدان العربية وإعادة رسم خريطتها. ربّما تمثّل تجسيداً للنفاق الدولي الذي يستنكر قطع «داعش» للرؤوس ويستفيد من النفط الذي تبيعه بأثمان زهيدة.

عودة الخلافة ليست سوى مسرحية هزليّة وهناك انقلاب اجتماعي حقيقي في العالم العربي
لكنها تمثّل تجسيداً آخر للإسلام السياسي. ولذلك، فهي قد تخضع ــ إن بقيت ــ إلى المنطق المتجدد لحركات الإسلام السياسي: تظهر الحركة بغلوّها المتمثّل في تطبيق الشريعة، ثم تخضع لمنطق الدولة الذي يفرض حدّاً أدنى من دينونة الحياة السياسية والاجتماعية، ويتمرّد الأفراد عليها بعد أن تقصف أعمار كثيرين، وتقضي على الآمال وتزيد الآلام. هذا ما حصل في إيران وما حصل في دويلة «حماس». وهذا ما أفلتت منه تونس لأنّها منعت الإسلاميين من تطبيق الشريعة وأخرجتهم من الحكم بطرق سلميّة.

■ عشت تجربة الانتماء السياسي الحزبي في مرحلة حكم الاسلاميين، كيف تقيّمين تجربتك هذه في مسارك الفكري؟
انتميت إلى حركة «نداء تونس» إثر تأسيسها، لأنّني رأيت فيها القوة الوحيدة القادرة على إلحاق هزيمة بالإسلاميّين وإنقاذ البلاد من منطق الغنيمة الذي تصرّفوا به مع الدولة، وإنقاذها من مجاملة الإرهابيّين وفتح الطريق أمام دعاة ختان البنات الذين بدأوا يتوافدون علينا. دافعت كثيراً عن هذه الحركة، وخيّبت آمال بعض أصدقائي الذين تمنّوا أن يروني مستقلّة أو على يسار «نداء تونس». ثم استقلت إثر فوز الحركة في الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة لأنّي كنت مخيّرة بين أمرين: إمّا أن أبقى في هذا الحزب وأحظى بمنصب سياسي، أو أن أواصل مهمّتي النقديّة وأبقى أنا، كما كنت، أفكّر وأكتب بحرية. لم أتردّد في اختيار طريق الحرية. يمكن لمثقّفين آخرين التوفيق بين الانتماء الحزبي والكتابة والنّقد. أمّا أنا فمزاجي لا يسمح لي بهذا. كان قوساً فتحته وأغلقته بسرعة، لأعود إلى النّقد، ولكي يشمل نقدي حركة «نداء تونس» بعدما أصبحت حزباً حاكماً.

■ تونس هي البلد الوحيد الذي نجح نسبياً في تجربة الانتقال الديمقراطي، هل يعود هذا الى تجذر المشروع الإصلاحي التونسي وريادة الحركة النسوية؟
نعم. بورقيبة أوصى بأن يكتب على قبره أنّه محرّر المرأة. وروح بورقيبة هي التي سرت من جديد في تونس، وجعلتنا ننتفض ونفرض على الإسلاميّين أن يحترموا إصلاحاته وأن يقبلوا بمرجعيّة حقوق الإنسان. بدل أن «يأخون» الإسلاميّون تونس، فرضنا عليهم أن يتتونسوا. وأعتقد أنّنا نجحنا في ذلك إلى حدّ كبير.