تونس | لم يكن في لبنان سوى «خطط» لإدارة المياه. وقد كتبنا الكثير وضغطنا كثيراً على الحكومات اللبنانية المتعاقبة لكي يكون للدولة اللبنانية «استراتيجية متكاملة لإدارة المياه»، كجزء من استراتيجية بيئية عامة أو ما يسمى «استراتيجية للتنمية المستدامة». كانت ذروة هذه الضغوط بداية العام 2010 حين نظم حزب البيئة اللبناني مؤتمراً عرض فيه مقترحات استراتيجية لإدارة المياه في لبنان، داعياً وزارتي البيئة والطاقة والمياه إلى مناقشتها.
وقد وعدت وزارة الطاقة آنذاك بإنجاز الاستراتيجية في أشهر، كون كل معطياتها باتت متوافرة، بعد أن كانت طوال الفترة السابقة (بعد فترة الستينيات) تتحجج بوجود خطة تسمى «الخطة العشرية»، التي كان يفترض أن تشكل المرجعية لكل المشاريع حول مياه لبنان، والتي كانت تتمحور في مجملها على الترويج لمعطيات (غير دقيقة) حول شحّ المياه ووجود عجز في الميزان المائي واستغلال سوء الإدارة وتوزيع المياه... لتبرير الحاجة إلى إنشاء مشاريع مكلفة وغير ضرورية كإنشاء سدود سطحية. كما حصل ضغط على وزارة البيئة لإقناعها أن مهمتها لا تقتصر على دراسة الأثر البيئي للسدود، بل إنتاج الاستراتيجية البيئية والتي يعتبر موضوع المياه ركناً أساسياً فيها.
بعد طول صراع، أنجزت وزارة الطاقة «استراتيجية المياه» نهاية العام 2010، وعرضتها في مؤتمر مع استبعاد النقاد التاريخيين لمشاريع السدود المكشوفة من حلقة المناقشة.
وقد بدأت بعد ذلك حملة سريعة لوضع ما يسمى حجر الأساس لمعظم السدود المقترح إنشاؤها في هذه «الاستراتيجية». وعندما بدأت الاعتراضات على هذه الخطة المختصرة بإنشاء السدود بشكل رئيسي، تدخلت وزارة البيئة في بعض المواقع وطلبت وقف الأعمال ودراسة الأثر البيئي لبعض السدود. إلا أن الانتقادات عادت وطالبت الوزارة بضرورة القيام بتقييم بيئي استراتيجي لاستراتيجية المياه عامة. وبالرغم من تأخر الوزارة بالاقتناع بالقيام بهذه المهام، عادت ولزمت شركة (غير متعمقة) للقيام بهذه المهمة.
بعد ما يقارب الخمس سنوات على المطالبة بتقييم بيئي استراتيجي لاستراتيجية المياه، أطل وزير البيئة على اللبنانيين العام 2015 بالإعلان عن الانتهاء من التقييم البيئي بشكل خجول لم يكن على مستوى الانتظارات. فهذا التقييم لم يتناول جوهر النواقص في استراتيجية وزارة الطاقة. والمعلوم أن هذه الأخيرة لم تكترث تاريخياً لدراسة الأثر البيئي لا أثناء وضع ما سُمّي «الخطة العشرية» التي كانت ترتكز في جوهرها إلى إنشاء الكثير من السدود السطحية، ولا بعد وضعها «الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه» عام 2010 وأقرها مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 9/3/2012، من دون أن تفتح على النقاش العام، لا سيما مع الذين كانوا يعارضون توجهاتها. صحيح أن هذه الاستراتيجية أخذت بالاعتبار بعض الانتقادات التي تناولت ما كان يسمى «الخطة العشرية»، إلّا أنها بقيت تفتقد إلى أربعة أركان أساسية للاستراتيجيات.
أربعة نواقص استراتيجية
أما الأركان الأربعة التي تفتقدها الاستراتيجية المزعومة لقطاع المياه فهي:
أولاً: عدم ارتباطها أو انبثاقها من استراتيجية شاملة للتنمية المستدامة.
ثانياً: عدم اعتمادها على المعطيات الحقيقية للثروة المائية في لبنان من ضمن النظام الايكولوجي العام والذي يفترض أن تستند إليه أية استراتيجية.
ثالثاً: عدم تحديد ودراسة الاستخدامات والحاجات وكيفية الترشيد فيها.
رابعاً: عدم تحديد الأولويات ضمن برنامج زمني معين.
تراهن خريطة الطريق التي وضعتها استراتيجية وزارة الطاقة على إنشاء السدود المكشوفة والسطحية بشكل رئيسي لتأمين الكمية الأكبر للمياه والتي ستصرف عليها الكلفة الأكبر أيضاً... بالرغم من أن هناك إمكانيات وبدائل أخرى أكثر أمناً وأقل كلفة، كاعتماد التخزين الجوفي والترشيد في الاستخدامات كافة وضبط السرقات والهدر وحسن وعدالة التوزيع وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي!
صحيح أن خريطة الطريق المقترحة تعتمد على استخدام موارد المياه السطحية من الينابيع بطريقة مثلى والتي يمكن أن تزيد 64 مليون م3 إضافي وأنها تعتمد على إعادة تغذية اصطناعية للمياه الجوفية التي يمكن أن تؤمن 200 مليون م3... إلا أنها تعتمد بشكل رئيسي على تخزين المياه السطحية في سدود وبحيرات بمعدل 880 مليون م3! بالإضافة إلى تمديد خطوط النقل والشبكات والخزانات وتركيب العدادات وإعادة تأهيل مشاريع الري وتجميع مياه الصرف ومعالجتها (80 % حتى عام 2015) وهذا ما لم يُنجز حتى تاريخ إعداد هذه الورقة.
بلغ عدد المشاريع القائمة حالياً وتلك التي كان مخططاً لها في قطاع المياه، بحسب خريطة الطريق الاستراتيجية، 321 مشروعاً بقيمة ما يقارب مليارين ونصف المليار دولار أميركي للفترة الممتدة بين 2011 و2015، وهي في معظمها، كان مخططاً لها أن تذهب لإنشاء السدود المكلفة التي كان يمكن الاستغناء عن معظمها إذا ما أخذت الإجراءات البديلة والموفرة!

* للمشاركة في صفحة «بيئة» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]