«أظرف» ما في الحملة الانتخابية الحامية الوطيس في فرنسا، على وقع الفضائح والمفاجآت المختلفة، أن بيروت باتت محجّة المرشّحين لمعركة الرئاسة القريبة (نسيان/أبريل المقبل). صحيح أنّ هناك وجهات عربيّة أخرى «على الموضة» أيضاً لدى الفرسان المتسابقين إلى «قصر الإليزيه»، كالمغرب العربي مثلاً، لدوافع من نوع آخر لها علاقة بشؤون الهجرة وشجون الإسلام (اِقرأ: الإرهاب).
لكن السؤال المطروح هو: ماذا يريد هؤلاء الزوّار فوق العادة من لبنان؟ أن يقدموا «الدعم» المادي والمعنوي للبلد ومؤسساته، كي ينهض من كبوته ويستعيد نموّه ويثبّت توازنه واستقراره؟ نتذكّر هنا «مساعدات» فرنسوا هولاند لجيشنا التي توقّفت مع تبخّر الهبة السعوديّة، ونبتسم.
إن مصلحة إسرائيل هي ــ حتّى إثبات العكس ــ الهاجس الأساسي لهؤلاء الضيوف، على اختلاف اتجاهاتهم السياسيّة التي باتت متشابهة إلى حدّ الملل. في رأسهم فكرة ثابتة: المصلحة الغربيّة في معركة إعادة تشكيل المنطقة، تحت الدمغة الدمويّة لما عرف بـ «الربيع العربي»، وتحديداً الملفّ السوري الحارق الذي كان أداء الرئيس الآفل فرنسوا هولاند فيه كارثيّاً. ولديهم طبعاً هوس واحد هو «المقاومة الإسلاميّة» التي كسرت أسطورة التفوق الصهيوني، وردّت جحافل التتار عن حدودنا، وحجّمت المسخ التكفيري المصنوع في الغرب الديموقراطي.

في نظر العنصريين الجدد الصراع بين الحضارة الغربية التي تشمل إسرائيل والهمجيّة المتمثّلة بالمسلمين

ما زال يطنّ في أذننا التصريح الفاجر الذي تجرأ عليه إيمانوييل ماكرون قبل أسابيع قليلة في بيروت، وسط لامبالاة الطبقة السياسيّة اللبنانيّة. نجم استطلاعات الرأي الذي أتى به الرئيس هولاند إلى الحكومة من خارج الحزب الاشتراكي، واستأنس برؤياه الليبراليّة في وزارة الاقتصاد، جاء يقول لنا إن الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليست حقاً مكتسباً، بل هو مشروط بمزيد من التنازلات لإسرائيل. وأدان حركة مقاطعة اسرائيل بوصفها حجر عثرة بوجه السلام! طبعاً السيد ماكرون مشكور على مناورته الانتخابيّة قبل أيّام في الجزائر، لكن هل علينا أن ننتظر مئة عام كي نسمعه يعترف بأن ممارسات الاحتلال في فلسطين «جريمة ضد الإنسانيّة»؟
اليوم تغيّر المشهد في فرنسا الغارقة في أزماتها وخوفها، وتغلغلت العنصريّة حتّى في شرائح جمهور ناخبي «اليسار» سابقاً. الإرهاب الذي ضرب الشعب الفرنسي، نتيجة سياسات حكوماته الفاشلة والانتحاريّة، دفع بجزء مقلق من النخب والرأي العام إلى مطبّ الإسلاموفوبيا، تحت راية «العلمانيّة» غالباً. علمانيّة الرجل الأبيض، طبعاً. وطلع «الرجعيّون الجدد»، بخطاب «النقاء الحضاري»، والخطر الذي يشكّله الإسلام على «القيم الغربيّة» والهويّة الفرنسيّة. وفي هذه المناخات، فيما فرنسا تشهد انتفاضة جديدة في الضواحي على سياسات القمع والتمييز بحق أبناء المهاجرين، ستصل إلى لبنان غداً الأحد، زعيمة اليمين المتطرّف مارين لوبن.
مارين لوبن هي ابنة ضابط فوج المظليات السابق، النازي الهوى، الذي خدم في فيتنام وكان يعذّب المجاهدين خلال حرب الجزائر، ووريثته القسريّة على رأس «الجبهة الوطنيّة»، الحزب المتحالف مع كل تيارات اليمين العنصري في أوروبا. وهي صاحبة الشعارات الشعبويّة التي تستغل الغضب العارم ضد الاستابليشمنت والبيروقراطيّة والخوف من المستقبل، في أوروبا الحاليّة «المفصّلة على قياس الشركات الكبرى والرساميل والمصارف». مارين لوبن هذه من رموز الطاعون الذي يحاصر الغرب اليوم، في دوامة الإخفاقات الاقتصاديّة، وانهيار النخب الحاكمة، من الولايات المتحدة إلى دول أوروبيّة عدّة بينها هولندا المعرّضة بدورها لمفاجآت انتخابيّة. فهل هذا ما كان ينقصنا في لبنان؟
صحيح أنّ حزب «الجبهة الوطنيّة» الذي تتزعمه لوبن، خضع لعمليّات تجميل. وبتأثير من ساعدها الأيمن فلوريان فيليبو الآتي من تيار الاشتراكي السيادي جان-بيار شوفنمان، سعت إلى الاستغناء (في الشكل) عن خطاب كره الغرباء، الإقصائي التحريضي الحاقد على العرب والسود والمسلمين. استبدلت به لباساً عصرياً متمحوراً حول «العدالة الاجتماعيّة» وحقوق الفرنسيين المستضعفين والفقراء وضحايا العولمة، ورفعت «راية السيادة الوطنيّة في مواجهة الوحش الأوروبي. لكن هل يغيّر كل ذلك هويّتها، ويمحو تاريخها، ويقلل من خطورتها؟
في السياق نفسه، تحاول مارين لوبن أن تقفز من كره اليهود واللاساميّة المتجذرة في وعيها ومرجعيّاتها، إلى توطيد العلاقة مع إسرائيل بصفتها «واحة الحضارة» في هذه المنطقة الهمجية والمتخلفة. العنصريّة باتت مركّبة وأكثر تعقيداً ليس إلا، فالصراع الحقيقي في نظر العنصريين الجدد، بات بين «الحضارة الغربية البيضاء» التي تشمل إسرائيل، والهمجيّة والإرهاب المتمثّلين بالعرب والمسلمين. هذه البدعة القادرة على الجمع بين المرجعيّة النازيّة وحب إسرائيل، مهندسها هو أحد المقرّبين من لوبن، النائب (الاشتراكي سابقاً) جيلبير كولار الذي سيرافقها إلى بيروت. كولار داعية صهيوني، وصديق لإسرائيل بالمعنى الحرفي للكلمة. هو الذي وقف في مجلس النواب الفرنسي العام 2014 معارضاً اقتراح القرار الداعي إلى الاعتراف بدولة فلسطين. وصرخ: «إن بقاء إسرائيل هو أحد أساسات الدفاع عن قيمنا وحضارتنا الغربيّة».
جيلبير كولار هذا من أبسط الأمور أن يمنع غداً من دخول لبنان. فوجوده نكسة كبيرة وإساءة مباشرة إلى كرامتنا الوطنيّة، وإشارة مقلقة على تحوّلنا إلى بلد سائب، مشرّع لسفراء إسرائيل. أما مارين لوبن، فوجودها عار على لبنان. واستقبالها من قبل شخصيّات وزعامات لبنانيّة، أو حتى مجرّد مصافحتها، خطأ سياسي وأخلاقي يصعب قبوله أو التسامح بشأنه. هذه «الفاشيّة» التائبة ظاهريّاً، غير مرغوب بها عندنا. مارين لوبن سليلة الماريشال بيتان، الابنة الروحيّة لشارل موراس، وروبير برازيّاك، وبيار دريو لاروشيل، لا يمكن أن تكون حليفة، أو صديقة، أو حتّى محاورة لأي سياسي لبناني. مدام لوبن عودي أدراجك، لا أهلاً ولا سهلاً في لبنان!