لم يخطر في بالي أن المدرسة الجديدة التي سأنتقل إليها ستختلف عن تلك التي كنت أرتادها. لم أعرف بأن «مكتبة»، كانت محور حياتي سابقاً، ستجعلني في مدرستي الجديدة أترك مقعدي الدراسي. كنت طفلاً في الثالثة عشرة من عمري عندما تلقيت الصفعة الأولى. كانت غرفة بخمسين كتاباً هي التي آلمتني، أكثر من الألم الذي كان يجتاحني حينها لفقدان أصدقاء.
اكتشفت الكتب في حصّة إلزامية كان عنوانها «المكتبة». يومها، دخلنا إلى مكانٍ كبيرٍ، سأكتشف لاحقاً أنه فعلاً كبير، وليس كما يحدث مع ذكريات الطفولة، حيث تبدو الأشياء عكس الواقع، أصغر ربما من حجم ذاكرة طفلٍ يرى العالم من خلال عينين صغيرتين. كانت تلك المكتبة تحوي ما يقارب ثمانين ألف كتاب. كانت الحصة هذه عبارة عن جلسة تمتد لنحو ساعة، تقرأ خلالها بارعة ـ مسؤولة المكتبة ـ كتاباً لنا. أذكر جيداً صوت تلك السيّدة وحركات يديها التي كانت تقلّب صفحات الكتب. وأذكر أيضاً رائحة المكتبة. رائحة الكتب الجديدة الممتزجة بالكتب الأقدم منها. بالنسبة إلي، لم تكن تلك الساعة تكفي، فبدأت بزيارة بارعة خلال الفرص، طلباً للمزيد.

ومع الوقت، صرت أقرأ خلال حصص الدرس من كتب بارعة. أخبّئها داخل كتب الدراسة، حتى لا يزعجني الأساتذة بأسئلتهم. ومع انطلاق جرس نهاية النهار، أركض مسرعاً صوب المكتبة كي أعيد الكتب التي استعرتها وأنتقي ثلاثة أو أربعة أخرى للمنزل. وقد كانت بارعة، بابتسامة العارف، تهيّئها لي كي لا أتأخر. مع انتقالي إلى المدرسة الجديدة، لم يخطر في بالي أن أسأل عن المكتبة، فبالنسبة إلي كانت من المسلمات. كان همي الوحيد فقط أن تحوي ما يكفي من الكتب. انطلق العام وبدأت رحلات الغربة في صف جديد ووجوه جديدة، فبدا لي أن المخرج الأمثل هو المكتبة. سألت عن مكانها، فكان الجواب قهقهاتٍ غير مفهومة. عندها، سألت المديرة ـ بعدما حاصرتها خلال دخولها المدرسة صباحاً لاستحالة رؤيتها في أي وقت أخر ـ فأرشدتني إلى غرفة في الطبقة الأخيرة من المبنى، وأعطتني مفتاحاً صدئاً أصرّت على أن أبقيه معي. لم أنتظر كثيراً. أسرعت إلى تلك الغرفة ومخيلتي تعيد رسم مكتبة مدرستي القديمة. لكن، سرعان ما استحالت الموسيقى نشيداً للموتى، إذ إن الغرفة لم تكن تحوي سوى بضع موسوعات بالية، لم أستطع قراءة عناوينها من الغبار النائم على أغلفتها. أغلقت باب الغرفة عائداً إلى الصف بحثاً عن أصدقاء حقيقيين لعدم توافر عوالم وأصدقاء خياليين. مرّت الأشهر وزاد الأصدقاء واتسعت دائرة الأعداء ـ كما كنا نسميها في تلك المرحلة ـ حيث يتم اختيار واحدٍ منا كل فترة ليمسي هدفاً نشحذ به ألسنتنا وقبضاتنا. عندما حان دوري، بدأت أكره الذهاب إلى المدرسة، فابتدعت حلولاً كثيرة تجنّبني الحضور. تارةً أشعر بالمرض وطوراً أنسى الطريق إلى المدرسة، حتى وصل بي الأمر إلى أن أغادر البيت صباحاً وأهيم في الأزقة والشوارع. فعلت ذلك كي أصل متأخراً إلى المدرسة ويطردني الناظر.
خلال إحدى هذه الرحلات اليومية، وجدت ضالتي. عادت مخيلتي تعزف من جديد، عندما تلقّفت عيناي تلك الواجهة الصغيرة المحشورة بين محال للألبسة والمأكولات. واجهة تكدست فيها الكتب، حتى كادت تخفي الرجل الجالس خلف مكتبه الصغير.
بقيت ارتاد هذه المكتبة. أستأنس برائحة كتبها المستعملة التي تحكي أكثر من قصة. قصة رائحة قارئ سبقني وآثار أصابع وخربشات وإهداءات وملاحظات. كلها كانت تنتظرني داخل تلك الكتب. وكان الرجل الكبير بلحيته البيضاء وغليونه الدائم الاشتعال سبباً إضافياً للإقبال على الكتب. هذا الذي لم يلتزم بسعر، بل كان يقبل ما تيسّر من مال متوافر معي. يعطيني أحياناً كتباً بـ»الدين» أو التقسيط، شرط ألا ينضب عشقي للقراءة. أنهيت الجامعة ودخلت سوق العمل وما زال هذا الرجل صامداً بين كتبه، صامتاً عن لقمة عيش بالكاد يصل إليها. دخلت في علاقة جدية، فأصبحت خطيبتي من زبونات المحل، نزوره معاً ونمازحه بأنه سيكون عراب زواجنا. وبعد خمسة عشر عاماً على اكتشافي له، قال لي إنه سيغلق المكتبة ويغادر إلى كندا، طالباً مني انتقاء أكبر عدد ممكن من الكتب كي لا أنقطع عن القراءة خلال البحث عن بديل. لم نجد البديل بعد، وما زالت تعشّش في ذاكرتي رائحة الكتب العتيقة، كلما لفحني هواء باردٌ، حاملاً معه صقيع كندا.