جرى ذلك بعد أيام على اغتيال الحاج عماد مغنية يوم 12 شباط 2008. بعض قادة المقاومة، من الصفّين الأول والثاني، يفتحون «بريدهم» الخاص بعملهم، فيجدون رسائل من «الحاج». خطط ومشاريع سبق أن ناقشوه فيها، وأرسلوا له مسوّداتها، فأتتهم ردوده عليها. موافقات على مشاريع وخطط، ورفض لأخرى. بدت هذه الرسائل أشبه بوصيته. لم يُعرف ما إذا كان الحاج عماد قد سجّل وصية مصوّرة، أسوة بباقي شهداء المقاومة.
لكن الأكيد أن «وصيته» العملية وُضِعَت قيد التنفيذ منذ ما قبل استشهاده. في الواقع العمليّ، ومن دون مبالغات، ما زلنا، في لبنان، وجزء من المنطقة، نعيش «زمن عماد مغنية». لم يكن الرجل فردانياً في عمله. هو جزء من مؤسسة حرص على (وأسهم في) رفع مداميكها لبنة لبنة، منذ أن تولى، عام 1998، قيادة الأذرع العسكرية والأمنية للمقاومة في لبنان. وإذا جاز وضع السيد حسن نصر الله جانباً، كان مغنية الأول بين متساوين في القيادة الجهادية لحزب الله. يروي أحد عارفيه عن قرب، أنه كان، متى دخل عليه الشهيد مصطفى بدر الدين، يقف له قائلاً: «أهلاً بكبيرنا». لم يكن يقولها مجاملة، بل كان يرى في رفاقه في قادة المقاومة زملاء مساوين ليه، ويقدّر بعضهم حتى يرى أنه ليس أفضلهم. لكن عارفيه يجزمون في الوقت عينه بأنه كان صاحب اللمسة الساحرة، والذكاء الوقّاد، والقدرات القيادية غير القابلة للحصر. والأهم، أنه كان يملك شجاعة أن يقول نعم، وأن يقول لا، وأن يجترح الخطط التي تُبنى عليها الإنجازات.

لن يعترف حزب الله بـ«القوة الخفية» التي ضرب بها مغنية العدو في أقاصي العالم

لماذا «زمن عماد مغنية»؟ مرّت تجربة المقاومة في عدة مراحل. وبعد عام 2000، كان عليها التكيّف مع الواقع الجديد. بعد «حرب العصابات» ضد قوات الاحتلال، فرضت المقاومة على نفسها تحقيق مشروعين: الأول، بناء قوة دفاعية تتصدى لأي عدوان مستقبلي، وتمنعه من احتلال الأرض. وهنا مكمن التميّز الذي حققته المقاومة بقيادة مغنية. فحركات المقاومة تبدأ عملها بعد احتلال الأرض، ولا قِبل لها بمواجهة جيوش، على الطريقة الكلاسيكية. أما مغنية، فأراد أمراً آخر. كان يبسّط الأمر لمن يحدّثهم: هل شاهدتَ توم أند جيري؟ هل ترى كيف يدخل من مكان ويخرج من مكان آخر، بلا أن يتمكّن عدوه من اللحاق به؟ أريد شبكة أنفاق تحقق نتيجة كهذه. كان له ما أراد. فوق البنية التحتية، عمل على العنصر البشري، وربطه بأرض الجنوب، كساحة الاشتباك المباشرة مع العدو مستقبلاً. كانت المقاومة تحصر معسكرات تدريبها في البقاع (فضلاً عن سوريا وإيران). فجأة، صارت أرض الجنوب ميداناً للتدريب. وفي هذا الميدان، بُنِيَت القوة الخاصة للحزب. بات على كل متفرغ في أي ذراع من أذرع المقاومة المرور ببرنامج تدريب قاسٍ ومضنٍ، على أرض الجنوب. أراد الحاج من ذلك جعل المقاومين أكثر معرفة بميدان القتال، وقدرة على العمل والمناورة فيها.
المشروع الثاني الذي عمل حزب الله على إنجازه، بإشراف مغنية بعد عام 2000، كان بناء قوة تردع العدو عن تنفيذ أي عدوان ضد لبنان، مع الأخذ بالاعتبار أن المقاومة ستستمر بتنفيذ عمليات، سواء في مزارع شبعا، أو لتحرير الأسرى. وفي هذا المجال تحديداً، كان مغنية «الأستاذ». هو أحد أبرز الذين أجبروا العدو على التزام قواعد اللعبة مع المقاومة، وعلى حَصْر العمل العسكري والأمني بالطريقة التي تظهّرت في اتفاق نيسان 1996: لا تقصفوا مدنيينا، فلا نقصف مستعمراتكم. بالاستناد إلى «القوة الأمنية الخفية» التي لم يكشف عنها حزب الله بعد، ولا يُتوقع أن يكشف عنها مستقبلاً (فضلاً عن أنه لن يعترف بها)، أجبر مغنية العدو على خفض سقف عمله ضد المقاومة وبيئتها. تغتالون السيد عباس الموسوي (16 شباط 1992)، فيأتيكم الرد ولو في أقاصي الأرض. تستهدفون قوة للمقاومة كانت في معسكر تدريب في عين كوكب البقاعية (1994)، فتخرج «القوة الخفية» مرة جديدة عن قواعد اللعبة، لتضرب العدو «حيث احتسب». العبقرية هنا كانت في الإعداد والتنفيذ السريعَين. كأن ثمة قوة جاهزة، مع خطط وأهداف. ولم تكن تحتاج إلا إلى قرار بالتفعيل. وهنا تكمن معادلة الردع: بناء قوة يخاف منها العدو. لكنها لا تخيفه لمجرد وجودها. بل إن ما يجعلها مصدر خشية، هو إرادة تفعيلها.
رغم أن الحاج رضوان كان يدرك تماماً حدود قوة المقاومة فيقف عندها، فإنه كان يعلم في الوقت عينه أن في مقدور حزب الله، كحركة شعبية غير نظامية، ومحدودة الموارد، أن تتخطى حاجز الإمكانات. وعند اقتراح أي مشروع لبناء القدرات، ما كان يقيم أي اعتبار للحاجز النفسي الذي يقول إن «هذا مشروع يحتاج إلى دولة لبنائه وإدارته». بناء قوة صاروخية بَحريّة على سبيل المثال، أو أن يُصبح للمقاومة سلاح جو. «شو ناقصنا؟ مهندسون؟ شبان مبتكرون؟ فتِّشوا عنهم. ستجدونهم». وهكذا كان. «نحتاج إلى صواريخ دقيقة، بعيدة المدى (نسبة إلى مساحة لبنان وفلسطين المحتلة)؟ فلتكن مصانع في سوريا (وفي لبنان؟)». وفي هذا المجال تحديداً، يبرز دوره كضلع في المثلث الذي جمعه بقائد فيلق القدس الحاج قاسم سلماني، وبالمستشار الخاص للرئيس السوري بشار الأسد، العميد الشهيد محمد سليمان.

كان مغنية أستاذاً في
تحقيق الردع وإجبار العدو على العودة إلى «قواعد اللعبة»

عملياً، كان حظ العدو سيئاً للغاية، لأنه لم يتمكّن من اغتيال الحاج عماد مغنية بعيد تحرير الجنوب مباشرة. فالرجل كان على رأس من أخذوا قرار توسيع جسم المقاومة وبناء منظومتها التي منعت إسرائيل من تحقيق النصر عام 2006. وكان حظ العدو أكثر سوءاً لأنه لم يصل إلى الحاج إبان الحرب. فبقاؤه على قيد الحياة، سنة ونصف سنة بعد انتهاء العدوان، مكّنه من الإشراف على عملية استخلاص العبر من الحرب، وتحديد الثغر، ووضع خطط سدّها، وملاحظة مكامن القوة، والسعي إلى تعزيزها. سريعاً، رُسِمت معالم المرحلة المقبلة، فكان الإعداد لتحويل حزب الله إلى «قوة إقليمية عظمى»، تقاتل على جبهتين في آن معاً، بحسب ما أعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عام 2008. ومما قاله نصرالله أيضاً أن الحاج رحل ولم يترك إلا القليل لإكماله. ويمكن اليوم سماع مقاومين يجزمون بأن الجزء الأكبر من مسار تعاظم قوة حزب الله، يعود إلى خطط وضعها، او أشرف على وضعها، أو أسهم في وضعها، أو وافق عليها، الحاج عماد مغنية. باختصار، إن معادلة الردع، بعنصرَيها (إعداد القوة وإرادة تشغيلها)، وجودها مدين إلى مجموعة من الأشخاص، كان عماد مغنية أوّلهم. ومن هنا، يبرز حجم الخسارة التي تعرّضت لها المقاومة قبل سنين تسع. من يعيشون على تماس مع حركة المقاومة، كانوا بلا شك، يشعرون بقوة حضوره، ولو لم يروه يوماً. تماماً كما يشعر عارفوه بقوة غيابه، رغم أن «زمن عماد مغنية» لم ينتهِ بعد.