الحديث عن حقوق المرأة الفلسطينية ومساهماتها في الحركة الوطنية الفلسطينية إبان الاحتلال الأنغلو- صهيوني موضوع يطول وتختلف أساليب مقارباته من مؤلف إلى آخر. في الواقع، ثمة عدد قليل من المؤلفات التي تتناول مساهمات المرأة الفلسطينية في مختلف مناحي الحياة إبان الاحتلال الإنغلو-صهيوني، ومنها على سبيل المثال مؤلفات «التاريخ الشفوي» التي أشرفت عليها الباحثة الفلسطينية فيحاء عبد الهادي وأسهمت فيها. ومن المؤلفات المكتوبة بغير اللغة العربية، كتاب للعالمة الأميركية إلِن فلَيْشْمَن صدرت ترجمته العربية في نسخة رقمية، وسيبصر النور قريباً في نسخة ورقية. يأتي كتاب «المرأة الفلسطينية في عهد الانتداب البريطاني» («منشورات الرمال» ــ قبرص) عن وضع المرأة الفلسطينية وأدوارها في بلادنا المحتلة، خلافاً للصور النمطية عن المرأة الفلسطينية إبان الاحتلال الإنغلو-صهيوني، وهي «المرأة المقموعة المتخلفة التي تعيش في عالمها الخاص»، و«المرأة الريفية الكادحة المرهَقَة»، وأخيراً المرأة المدينية، لكن المرفهة، الناشطة في الحقل الاجتماعي، لكنها الساكنة البرج العاجي، الذي لا ترى من شرفته هموم نساء الطبقات الكادحة.
تشير الكاتبة حنان عسلي شهابي، إلى إحدى صور اضطهاد المرأة المتمثلة في أنّ الفتاة كانت تتلقى من أمها تعليمات «الأخلاق القويمة»، ومنها كيفية الجلوس والمشي واللباس والكلام والضحك واللعب... وهذه الأمور وغيرها لا تزال قائمة في الطبقات أو الفئات المحافِظة والريفية. في الحقيقة، إننا نرى أن بعض هذه الأشكال لا تزال قائمة في المجتمع الفلسطيني، لكن بمقادير متباينة وأقل مما كانت عليه إبان فترة هيمنة الاستعمار.
تخصص الكاتبة الفصل الأول من مؤلفها الذي قسمته إلى جزءين أولهما «الأدوار الاجتماعية والثقافية والسياسية في فترة الاحتلال»، للتعريف بواقع المرأة الفلسطينية الاجتماعي في فترة موضوع العمل، وبالتقاليد والأعراف السائدة «الخانقة» في كل من المدينة والريف والبادية التي كانت تتحكم في حياتها وتعيق تقدمها.
الفصل الثاني مخصص لمسألة تعليم المرأة في العهد العثماني، ومن ثم تحت الاحتلال وسياساته التعليمية ومناهجه وأنواع المؤسسات التعليمية العامة والخاصة، والمرتبطة بالإرساليات الأوروبية التي تأسست في البلاد عام 1848، وأدخلت المناهج العِلمانية في الحياة التعليمية، وتأثير ذلك في مكانتها الاجتماعية.
في الفصل الثالث من الجزء الأول، تنتقل الكاتبة إلى نهوض الحركة الثقافية في فلسطين المحتلة ومدى إفادة المرأة المدينية منه، مشددة على أن فلسطين كانت قبل الاغتصاب الصهيوني من أكثر الدول العربية تطوراً من المناحي الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. وقد شهدت انتعاشاً في مجالات الفنون والأدب والموسيقى. بين عامي 1911 و1948، تأسست في فلسطين 161 جريدة ومطبوعة، وعشرات الكُتبيات. كما خصت الكاتبة أقساماً من هذا الفصل للتوقف عند الأدوار السياسية للمرأة الفلسطينية الفردي والعفوي والمنظم، إذ بدأ تأسيس المنظمات النسائية عام 1921، للمساهمة في مختلف المناحي ومنها الخيري والسياسي وحتى العسكري. كما تولي الكاتبة الاهتمام لنشاطات محددة مثل الصالونات الثقافية، والكتابات الصحافية والإذاعية والفنون التشكيلية والشعر والتطريز وصناعة القش والفخار وغير ذلك من الفنون الشعبية الموروثة.

كانت فلسطين من أكثر الدول العربية تطوراً قبل الاحتلال

ينتهي الجزء الأول بالفصل الرابع والأخير «الدور السياسي للمرأة في عهد الانتداب البريطاني والحركات النسائية الفلسطينية»، وتتحدث فيه عن نشاطات المرأة الفلسطينية، العفوي والفردي والمنظم، مؤسّسة بذلك مقدمة لنشوء الحركة النسائية الفلسطينية. تقسم الكاتبة نشاط المرأة الفلسطينية في هذه الفترة كرونولوجياً (1920 ــ 1928)، و(1929 ـــ 1934)، و(1935 ـــ 1938)، وأخيراً الفترة الممتدة من عام 1939 إلى عام 1948. وقد أوضحت شهابي، وإن على نحو ضمني، أنّ ذلك التقسيم الكرونولوجي يرتكز إلى النشاط السياسي الثوري العفوي والمنظم في الشارع الفلسطيني.
قسمٌ مهمٌ من هذا الفصل خصصته الكاتبة للحديث المسهب في النشاط النسائي الفلسطيني المنظم في اتحادات ومنظمات وجمعيات ومؤتمرات وما إلى ذلك. هكذا نوّهت بـ «الاتحاد النسائي العربي الفلسطيني»، و«جمعية التضامن النسائي»، و«جمعية التقدم النسائي»، و«جمعية زهرة الأقحوان»، و«اتحاد العاملات الفلسطينيات»، والجيش النسائي التطوعي المساند. الجزء الثاني من المؤلف «رائدات متميزات من فلسطين»، خصصته الكاتبة للناشطات وسيرهن ومجالات عملهن النضالي، وهي أكثر أقسام هذا المؤلف إثارة. الفصل الأول من هذا الجزء مخصص للحديث عن رائدات الصحافة كساذج نصار، وماري شحادة، وفايزة عبد الحميد، ورائدات الفنون التشكيلية ومنهن زلفى السعدي، ونهيل بشارة، وفاطمة المحب وجوليانا ساروفيم. يتضمن الفصل الثاني تراجم لرائدات في الأدب مثل فدوى طوقان، وعنبرة سلام الخالدي، وفاطمة اليشرطية ونجوى قعوار.
أما الفصل الثالث، فقد خصصته الكاتبة للحديث في تراجم رائدات الحركة النسائية الفلسطينية ومنهن مهيبة خورشيد ومتيل مغنم وزليخة الشهابي وأديل عازر وعصام الحسيني. تنهي شهابي بحثها بتراجم رائدات في بناء المؤسسات التربوية الخيرية وهن نبيهة ناصر، وإليزابيث ناصر، وهند طاهر الحسيني. من الأمور الأخرى التي تستدعي الذكر في هذا العرض، هي منهجية عمل الكاتبة والمراجع التي ارتكزت إليها، آخذين في الاعتبار مرور عقود طويلة على مرحلة موضوع البحث، ورحيل قسم كبير من الأجيال التي ساهمت في تلك النشاطات أو كانت شاهدة عليها، وكذلك اختلاط الذاكرة للأسباب المعروفة ومنها التقدم في السن وما إلى ذلك من المعوقات. وكان على الكاتبة الاستعانة بكل ما توافر من مرجعيات تشهد على مدى مشاركة المرأة الفلسطينية، من مختلف طبقات المجتمع، في مجالات النضال المادي والمعنوي، وهذا يعني ضم الرواية والقصيدة والمقالة والسير الذاتية إلى المرجعيات، إضافة إلى أهمية دورها العائلي المتمثل في دعم الزوج وتربية البنات والأبناء وغير ذلك من المهام الكثيرة التي كانت ملقاة على عاهل المرأة العربية، ولا تزال كذلك، إلى حد ما. هذا المؤلف، يثري المكتبة العربية حول نضالات المرأة الفلسطينية إبان الاحتلال الأنغلو- صهيوني ويوضح أنّ مجالات تلك النضالات كانت متعددة، بما يمنح المرأة الفلسطينية المزيد من الدعم والاعتراف بدورها في مختلف مجالات الحياة.