منذ آذار (مارس) ٢٠١١، تحظى الحرب السورية باهتمام وسائل الإعلام. احتجاجات شعبية تحولت إلى صراعات مسلحة، تدحرج سريع لكرة الثلج بفعل العسكرة والتحريض المذهبي والتدخلات الخارجية. خصوصية الوضع السوري، السياق السياسي والاجتماعي والتاريخي للحرب الدائرة على الأرض السورية، تأثر المزاج الشعبي اللبناني القريب من موقع الحدث... كل هذه العوامل رصدها الصحافي اللبناني والمراسل في قناة «الميادين» محمد محسن في كتابه «وهم الحدود- معركة القصير» (دار الآداب)، إضافة إلى عرض التغطية المنحازة في الفضاء العربي لمصلحة طرف دون آخر. بعد مقدمة صغيرة عن نشأته في ضاحية بيروت الجنوبية وتحدّره من قرية من الجنوب اللبناني في بيئة خبرت الحروب وأهوالها، ينتقل محسن إلى ضفة العاصي، حيث يتداخل التاريخ والجغرافيا كما النسيج الاجتماعي اللبناني والسوري في شبكة علاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية، ليرصدها عبر حربين: الحرب الإسرائيلية على لبنان عام ٢٠٠٦ في ذروة التلاحم والمؤازرة من الطرف السوري للعائلات اللبنانية النازحة، ثم الحرب السورية التي رصد فيها محسن العسكرة ولعنات الديموغرافيا، إلى جانب الأضرار التي لحقت بالبلدات التي يقطنها لبنانيون وسوريون في ريف القصير السورية بفعل سيطرة المعارضة المسلحة عليها.

تدريجاً، يشرح محسن الانخراط التدريجي لـ «حزب الله» فيها عام ٢٠١٣، أمام التطورات الجذرية في الحرب السورية. يطرح مقاربته الجدية بتقديمه شهادة شخصية حول الحرب: رواية ميدانية لصحافي من أرض المعركة، وتأمل في سردية الحرب بتأكيد السلطة التي تمتلكها شهادة المقاتلين من الجانبين، إضافة إلى شهادات للمدنيين عن قرب، من دون إهمال الأعمال المهمة غير القتالية المتعلقة بالحرب مما يقع خارج المعركة، وهي كثيرة: التحريض الطائفي والمذهبي. أعمال التهريب والإمداد والتموين للطرفين المتقاتلين. فشل مساعي التهدئة وتحييد المدنيين. دخول العامل الأصولي على خط الأحداث. تأثر الشريان الحيوي لإمداد «حزب الله» بالوضع الميداني السوري، وقرار قيادته بدخول المعركة كحليف للجيش النظامي السوري بعد القصف المنتظم من المعارضة لمدن الهرمل والقصر في الجانب اللبناني. عدم إخفاء المعارضة نيتها بالتمدد داخل الجغرافيا اللبنانية بعد حسم معارك حمص وريفها.

وصف مفصل لمعارك ريف القصير وداخل المدينة


تدريجاً، ينتقل محسن بعد وصف مفصل لمعارك ريف القصير، إلى المعركة المركزية داخل المدينة. هكذا يقترب بالقارئ إلى رواية فيها من السعة والتنوع والتعقيد مع الكثير من المتنافرات بين صوت الطرف المنتصر عسكرياً (الجيش السوري وحلفاؤه) والطرف المهزوم (النصرة وكتائب الفاروق وفصائل المعارضة المسلحة)، يخصص لها محسن الفصل السابع في كتابه بتغطية مباشرة من مدخل المدينة ووصف دقيق مدعم بالخرائط الميدانية والتفاصيل الحربية واللوجستية لقضم الجيش النظامي و«حزب الله» التدريجي لأحياء المدينة، انتهاءً بالسيطرة الكاملة عليها في الخامس من حزيران (يونيو) ٢٠١٣. رواية لن تحسم بالتأكيد القضايا الأخلاقية المتصلة بالحرب السورية ككل، وبمعركة القصير خصوصاً، ولن تصل إلى خلاصات واضحة، لا سيما أن المؤلف نفسه يشير إلى تجاوزات تختلف بحجمها بين الجانبين (تعفيش، قمع، تطهير طائفي، تهجير).
تكمن أهمية مقاربة محسن بابتعاده عن التحليلات «المكتبية» لمقاربة الأزمة السورية المعقدة، واقترابه من المقاتلين في سردياتهم الواقعية للمعركة والاختبارات المؤلمة التي عايشوها، كذلك المدنيين وأحوالهم. ومع ذلك، يمكن انتقاد المؤلف بعرضه المستفيض لسردية «حزب الله» ومقاتليه. تموضع يبرره انتماء محسن للظروف الإعلامية عموماً، وما يمكن أن يتاح للصحافيين حسب أماكن عملهم، وما يترتب على هذا من ضرورات وتسهيلات لوجستية وأمنية.
يخرج محمد محسن في بعض فصول الكتاب من النفس الاستقصائي والميداني في تغطية المعركة، ليطلق العنان لنفس شعري في وصف الطبيعة الساحرة في بحيرة هنا أو مرج أقحوان من هناك، أو ليرقص في شارع مقفر بعد نهاية المعركة، أو ليبكي على خسارة صديق (حمزة الحاج حسن) في إشارة ذكية لصعوبة فصل المهني عن الإنساني في تجربة إنسانية عميقة مثل الحرب.
«وهم الحدود - معركة القصير» ينتقل بالحرب في وعينا من الوجبات الجاهزة الذي يقدمها الإعلام «النظري» إلى حقيقة الحرب كتجربة «إنسانية»، أو أن تتحول إلى فاجعة مطلقة لبشر من دون ذاكرة فردية أو جماعية. إنه كتاب مكتوب فوق ساتر ترابي. وصف يمكن أن يعطي كتاب محمد محسن رصيداً من الواقعية والمصداقية الضروريتين لمقاربة الحرب، في منطقة على فوهة بركان.