لم يكن أحد يتوقع لهذا المولود ذي البنيان الهزيل أن يستمر في الحياة لعدّة أيام. فقد أرجعوا سبب الوهن الجسدي إلى المشاكل الجسدية والنفسية التي تعرضت لها والدته أثناء حصار الألمان للعاصمة الفرنسية على مدى أربعة أشهر شحّت خلالها المواد الغذائية. لكن الطفل (مارسيل بروست) المولود في العاشر من تموز (يوليو) عام 1871 سيصبح مع الوقت واحداً من أبرز الأسماء في عالم الأدب على الصعيدين الفرنسي والعالمي. كان لهذا الطفل جسد نحيل، وجلد شديد الحساسية لكل ما حوله، فقد حدث أن أُصيب بالربو، وهو في التاسعة أثناء تجوّله في غابة بولونيا المجاورة لمنزلهم. ومع الوقت، سيصبح ذلك الحدث إحدى المحطات المفصلية في حياته؛ حيث تقل نزهاته إلى الخارج، ويلازم الفراش لساعات طويلة معطياً الأولوية في حياته إلى الورقة والقلم. أسهمت وفاة والدته عام 1905 في أن يصبح أكثر انعزالاً، وخصوصاً أنه كان شديد التعلّق بها. فقد كان طبيعياً أن تسأله والدته عن أدق تفاصيل حياته اليومية، كأن هذا الصبي جزء لا يتجزأ من أيامها المتعاقبة.

عندما نشر بروست عمله الأدبي الأشهر «البحث عن الزمن المفقود» الذي يتألف من سبعة أجزاء في الفترة بين 1913 و1927، أصبح واحداً من أبرز الكتّاب على الصعيد العالمي. تحوّلت هذه السباعية مع الوقت إلى درة الأدب الفرنسي في القرن العشرين، وتناولت ببساطة مجموعة من العلاقات الإنسانية الشائكة لمجموعة من الأفراد والعائلات في المجتمع الفرنسي في إطار يميل إلى القبض على اللحظة من دون إهمال التفاصيل. يمكن تخيل حجم المشكلات الأساسية التي واجهها بروست في سبيل نشر هذا العمل الضخم الذي حاول من خلاله تسليط الضوء على معاناته الطفولية، والعديد من المشاهد التي تخصّ المجتمع الفرنسي. فكان صعباً في بداية الأمر تقبل هذا العمل الضخم من قبل دور النشر، ولك أن تعلم أن عدد صفحات الرواية تصل إلى 4300، تحتوي على مليون ونصف كلمة، وحوالى ألفي شخصية، وقد تطول الجملة الواحدة في وصفها لتصل إلى عدد هائل من الأسطر. وقد وصفها غراهام غرين بأنها «أعظم عمل خيالي».
في «كيف يمكن لبروست أن يغيّر حياتك» (1997) الذي انتقل أخيراً إلى لغة الضاد عن «دار التنوير» (ترجمة يزن الحاج)، يأخذ الكاتب الريطاني السويسري آلان دو بوتون (1969) القارئ في رحلة ممتعة وذكية داخل عالم بروست الثري. الرحلة هنا مرهونة بقدر وفير من المتعة الفكرية والبصرية. إن هذا الكتاب المقسم إلى تسعة أجزاء، يعدّ مثالاً على أهمية تطبيق أسس الفلسفة على مجريات الحياة اليومية. التعامل مع بروست هنا ليس بغرض الولوج إلى عالمه الأدبي/ الاجتماعي فحسب، بل أيضاً محاولة تقديم قراءة وافية للعالم الذي نعيشه بكل ما فيه من نجاحات وإخفاقات عن طريق الاستناد إلى مواقف حياتية واقعية حدثت لبروست أثناء طفولته، وكتابته لأعماله الأدبية، والصحافية، والنقدية، والفكرية. أما الملاحظة الأخرى، فتكمن في قدرة المؤلف على الدمج بين فلسفة بروست، وعلوم التنمية البشرية، فالتعامل مع النصّ المكتوب لا بد من إخضاعه إلى مُرشِحّات ذاتية حتى نستخلص منه كل ما هو جميل. على سبيل المثال، كان بروست يؤمن في داخله أنّ أفضل وسيلة للحفاظ على اللغة يكون عبر مهاجمتها، وإنّ التمسك المستمر بالكليشيهات اليومية هي أكثر ما يضّر اللغة. لذلك كان يقول: «كل كاتب ملزم بخلق لغته الخاصة، كما أن كل عازف كمان ملزم بخلق نغمته الخاصة. لا أعني إنني أحب الكتاب الأصليين الذين يكتبون على نحو سيئ. لكنهم لن يبدأوا الكتابة الجيدة إلا بشرط أن يكونوا أصليين، وأن يخلقوا لغتهم الخاصة».

الكتاب يعدّ مثالاً على أهمية تطبيق أسس الفلسفة على مجريات الحياة اليومية

في فصل «كيف تعاني بنجاح؟»، نلاحظ قائمة العلل الجسدية التي كان يعاني منها بروست، ولازمته حتى وفاته. مع ذلك، نجدّ أنه تمّكن من التعامل معها، وتحويلها تدريجاً إلى طاقة حركية تدفعه نحو الكتابة الإبداعية، والتأمل في الأوساط المحيطة به. ومن أمثلة ذلك نوبات الربو التي كانت تداهمه منذ سن العاشرة، فقد كانت تستمر إلى أكثر من ساعة فوق العشر مرات يومياً. وما أدراك بالتشنجات المعوية نتيجة عسر الهضم، والمشاكل في إخراج البول، وكذلك البشرة الحساسة. كان من المستحيل أن يستخدم أي نوع من الصابون أو العطور أو المستحضرات التجميلية الطبية لأن ذلك سيؤدي إلى هياج شديد في بشرته الحساسة. فقد وصفه أحدهم مرة أنه «شخص خُلق بلا جلدٍ». ولا تتوقف معاناة بروست هنا، بل تمتد إلى الفئران، والمرتفعات، والسفر، والسعال المتواصل الذي يصفه بقوله: «سيظّن الجيران لدى سماع الرعد المتواصل، والسعال المهتاج أنني اشتريت آلة أرغن أو كلباً، أو أنني – عبر علاقة لا أخلاقية (ومتخيلة حتماً) مع سيدة، أنجبت طفلاً يُعاني من سعال متواصل».. وأضف إلى ذلك صخب الجيران، ومغادرة السرير. فقد كان بروست يقضي معظم وقته في السرير، قائلاً: «حين يعاني المرء من الحزن، من الرائع الاستلقاء في السرير، هناك بكل طاقته وقوته – عند أحد طرفيه – وربما يدفن رأسه في دفء الأغطية، ويستسلم كلياً للنحيب، مثل أغصان رياح الخريف».
كان من الطبيعي أن تجد بروست منساقاً نحو فكرة الموت، فلم يكن يضيّع مناسبة مع أصدقائه من دون أن يُحدّثهم عن الموت. وإلى جانب أفكار أخرى ضّمها الكتاب كالصداقة، والتكوين الطفولي، فإنّ فصل «كيف تفتح عينيك؟» يعدّ من أكثر فصول الكتاب تميزاً. حاول بروست مرةً كتابة مقالة حاول من خلالها أن يرسم ابتسامة على وجه شابٍ مكتئب، حسود، ساخط. وهنا قام بتوجيه الشاب إلى الغاليرهات التي تضمّ لوحات الرسام جان – باتيست شاردان الذي كان مولعاً برسم الأباريق، والفاكهة، وزبديّة الفاكهة، وركوّة القهوة، وأرغفة الخبز، والسكاكين، وكؤوس النبيذ، وشرائح اللحم. ببساطة، إنه رسام لحظات إنسانية عادية لا تميل إلى البطولة أو التمجيد. كأن النظر إلى تلك المفردات البسيطة، توّلد حالة جوهرية من السعادة. إن هذه التفاصيل الصغيرة هي ما يجعل للحياة معنى مجدداً. لذلك، كان يهتم بمواعيد القطارات، والسفن عند الموانئ، والمأكولات الباريسية التي حوّلها أحد الطهاة الفرنسيين في ما بعد إلى كتاب وصفي للطبخ. وفي كتابه «مارسيل بروست عبقري الطفولة»، يقول سمير الحاج شاهين عن فلسفة الفن لدى بروست: «وهكذا يتعلم الرسام أن يرى الدنيا، ولا يجعلها مثالية، بل يفعل أفضل من ذلك: يهتك الستر عن بعض جوانبها المحجوبة عنا، أو المرذولة منا، مع أنها كلها مثيرة للاهتمام إذا أيقظ وعينا الغافي والمتبلّد، وشحذ بصرنا، الذي لا توجد إلا بفضله. ولا تنفصل عنه». ولا ينفصل هذا الكتاب عن المواضيع الحيوية في حياة بروست كالحب، والصدقة، وصداقة طبقات المجتمع العليا من الأثرياء، والنبلاء وصولاً إلى اعتداده بأماكن الطفولة الأولى. إن الرحلة داخل هذا الكتاب كفيلة بأن تصيبك بالمتعة المعرفية، والسخرية من الأوضاع الصعبة معاً.