القاهرة ــ الأخبار المحكمة الإدارية العليا أغلقت، يوم أمس، باب القضاء «بالضبّة والمفتاح» أمام المناورات التي انتهجها نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي لإضفاء الطابع القانوني على اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، والتي تم توقيعها خلال الزيارة الملكية التي قام بها سلمان بن عبد العزيز للقاهرة في نيسان عام ٢٠١٦.

وبرفض الطعن الذي تقدمت به الحكومة المصرية على قرار المحكمة الإدارية، وبالتالي تأييد حكم القضاء الإداري ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، والتأكيد، تبعاً لذلك، على سيادة مصر على جزيرتي تيران وصنافير، يكون معسكر «ثورة 25 يناير» قد حقق أول انتصار فعلي على نظام السيسي، في الحرب اللامتكافئة المعلنة ضده من قبل أجهزة النظام السيساوي، بما رافق ذلك من تضييق الخناق على المجال العام، الحزبي والإعلامي، والزج بمئات الناشطين المطالبين بالحرية والديموقراطية في السجون.
الأجواء الاحتفالية التي تفجرت داخل قاعة المحكمة، وخارج مبناها، في حي الدقي القاهري، وسيول التغريدات والتدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي، أتت لتعبّر عن شعور بفرحة ندر أن انتابت المعسكر الثوري، منذ الثالث من تموز عام ٢٠١٣، حين أفضى تقاطع المصالح النادر، بين الثوار والعسكر والفلول، إلى إسقاط الفاشية الدينية الممثلة بحكم «الإخوان المسلمين»، بما أسس لفاشية عسكرية، سعت، منذ اللحظة الأولى، إلى الانتقال بمصر إلى نيوليبرالية عسكرية، تكاد تكون الأولى من نوعها في العالم العربي، قوامها استحواذ المؤسسة العسكرية على كامل مفاصل الاقتصاد الوطني، ويديرها رئيس بزيّ مدني ذي خلفية عسكرية... لا بل استخبارية!

ثمة اعتقاد في القاهرة بأن ما يجري ليس سوى هدوء ما قبل العاصفة


لا يمكن الفصل بين قضية تيران وصنافير عن ذلك التوجه الذي سعى إليه عبد الفتاح السيسي، ذلك أن التحوّلات التي قادها الجنرال الحاصل على رتبة مشير، افتقرت إلى عنصر جوهري، وهو وجود اقتصاد قوي، أو على الأقل بنية اقتصادية قابلة للتطوير، بالمفهوم الرأسمالي، وبالحد الأدنى من الشكليات «الديموقراطية» التجميلية، التي من شأنها حفظ ماء وجه النظام الحاكم.
تجاهل السيسي كل ذلك، فسلك طريقاً خطيراً، وانتهج سياسات متخبطة، استغل فيها تفويضاً شعبياً غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث ــ لم ينله حتى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في ذروة صعوده ــ لخنق المجال العام بسلسلة قوانين؛ كان أبرزها قانون التظاهر السيئ الصيت، واستكملها بتشكيل مجلس نيابي فصّلته الأجهزة الأمنية على مقاسه، وحجم أي دور آخر، حتى لجهاز الدولة البيروقراطي، على سيّئاته، حتى صارت البلاد تدار بكلمة واحدة من مدير مكتبه عباس كامل، من دون خطة واضحة، وصار الخطاب السياسي قاصراً على هلوسات «الدروشة» المصطنعة، و«العسكرة» الفظة، التي دفعت الرئيس/ المشير ذات يوم إلى مقاربة قضية حساسة على غرار تيران وصنافير بعبارات من قبيل «أنا أمّي قالت لي ما تبصش للي في إيد الناس» و«مش عايز كلام تاني في موضوع الجزيرتين».
في ظل هذا التخبط، لم يكن أمام السيسي سوى طريق واحد يسلكه لتجنب الفشل، أو بعبارة أكثر دقة، تأخير الكارثة، وهو المساعدات الخليجية التي أغرقته بها دول مثل السعودية والإمارات، كاستثمار إقليمي في حليف «سني» محتمل، من خارج مجرّة مجلس التعاون الخليجي، ولا سيما في ظل المواجهة المفتوحة بين الخليجيين وإيران في بؤر عدة ملتبهة، مثل سوريا واليمن.
لكن «الشيك الخليجي» الذي مُنح للسيسي «على بياض» أيام الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز لم يعد كذلك في ظل خليفته الملك سلمان، وخصوصاً بعد بروز الطموحات الجامحة الى حد الجنون لولي ولي العهد محمد بن سلمان، ودخول المملكة النفطية في أزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة، فرضت على الأسرة المالكة الاستغناء عن فكرة «الدعم بالمجان»، وطلب الأثمان السياسية لكل بترودولار يخرج من خزينتها إلى مصر، ولم تعد بالتالي عبارات مثل «كبير العرب» كافية لصدور أمر ملكي «بدعم مصر الشقيقة» بالمليارات.
من بين تلك الأثمان، كان طلب السعودية مشاركة مباشرة من الجيش المصري في المغامرات الجارية في سوريا واليمن، وهو ما لم يكن السيسي قادراً على فعله، لاعتبارات عدة.
في ذلك المناخ، أتت الزيارة الملكية لسلمان بن عبد العزيز لمصر في نيسان عام ٢٠١٦، وما رافقها من توقيع اتفاقيات ثنائية، كان أشدها خطورة، اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، التي تضمنت التنازل عن تيران وصنافير، بموازاة حزمة مساعدات اقتصادية جديدة لمصر.
لا أحد يعلم ما الذي كان يجول في ذهن السيسي، حينما أقدم على تلك الخطوة على حافة الهاوية، ومن غير المعروف ما إذا كان أحد من مساعديه قد لفت انتباهه الى أن للسعودية باعاً طويلاً في استغلال الأوضاع الصعبة التي تعانيها هذه الدولة أو تلك، للحصول على اتفاقية حدودية هنا، والاستحواذ على جزيرة هناك... كل ما فكر فيه السيسي، على الأرجح، هو الجرعة الجديدة التي سترفد بها السعودية الاقتصاد المصري، والاطمئنان إلى أن الشعب المصري المشغول بلقمة عيشه لن يتحرك من أجل الدفاع عن جزيرتين لا تحتلان سوى نقطتين صغيرتين على خريطة القطر المصري، وأن القوى السياسية المعارضة لم تعد تملك الهامش الذي يسمح لها بالتحرك وحشد الرأي العام ضد الاتفاقية مع السعودية.
ثمة عامل آخر راهن عليه السيسي، لإمرار الصفقة الكبرى، ويتمثل في التحولات الإقليمية في مرحلة «السلام النووي» بين الولايات المتحدة وإيران، والحديث عن «عقيدة أوباما»، التي تضمن انسحاباً أميركياً من مشاكل الشرق الأوسط وفق ترتيبات شاملة، محورها السعودية وإسرائيل، والتي يبدو أن الرئيس الجديد دونالد ترامب لن يشذ عنها. وثمة خطوط عدة يمكن التقاطها للربط بين قضية الجزيرتين والترتيبات الإقليمية المحتملة، وأبرزها التسريبات بشأن توجه الإدارة الاميركية نحو تقليص وجودها في شبه جزيرة سيناء في أواخر عام ٢٠١٣، وخطوات التقارب الإسرائيلي ــ السعودي، وصفقة تزويد الجيش المصري بحاملتَي طائرات الـ«ميسترال»... الخ.
في هذا السياق، فإن ثمة نقطة جوهرية في الاتفاقية، ربما لم يتطرق إليها كثيرون في ظل الجدل السائد حول هوية الجزيرتين، هي أن انتقال ملكية جزيرة تيران بالذات، تعني تحوّل مضيق تيران من ممر مائي بين شاطئين لدولة واحدة إلى ممر بين شاطئين لدولتين، ما يُسقط عن مصر ممارسة السيادة عليه، ويمنعها من إقفاله في حال نشوب حرب، لأنها ستخالف بذلك القانون الدولي.
كل ذلك، يعني أن ثمة عوامل داخلية (توجهات السيسي الاقتصادية) وخارجية (الترتيبات الإقليمية) قد تقاطعت لإمرار صفقة التنازل عن تيران وصنافير. ولعلّ هذا ما يفسر الحملة الأمنية الشديدة والمحاولات المستميتة من قبل نظام السيسي للتصدي للحملة الشعبية المضادة التي حققت أول انتصار لها أمس، مع صدور الحكم النهائي بشأن مصرية تيران وصنافير.
وإذا كان النظام المصري قد استقبل صدمة قرار المحكمة الإدارية العليا بهدوء، فإن ثمة اعتقاداً بأن ما يجري ليس سوى هدوء ما قبل العاصفة، التي قد تستغرق أشهراً، ومن أبرز ملامحها خطوة غريبة لجأت إليها الحكومة المصرية قبل أيام، عبر إحالة الاتفاقية الحدودية إلى مجلس النواب، في تجاهل واضح للأحكام القضائية السابقة التي أجمعت كلها على مصرية تيران وصنافير، وهو أمر من شأنه أن يُدخل البلاد في مرحلة خطيرة عنوانها العريض «تنازع السلطات»، في سياق معركة طويلة الأمد، اكتسب فيها المعارضون جرعة منشطات عالية، بعد الحكم القضائي الأخير، ويُرجح أن يقابها نظام السيسي بنزعة عدوانية مفرطة، بعدما تكبّد أمس أولى هزائمه.