انطلاقاً من اعتبار العنف ظاهرةً اجتماعية في الأساس تنمو وتتشكّل داخل الفرد تبعاً لبيئته والظروف المتعددة التي تُحيط به، فتتجذر في بُنيته النفسية وتنعكس أفعالاً تأخذ تشكّلات مختلفة، يتناول الباحث إبراهيم الحيدري في كتابه «سوسيولوجيا العنف والإرهاب» الصادر عن «دار الساقي» قضيةَ العنف. يركز على وجهها الأكثر تصعيداً وإشكالاً المتمثّل في الإرهاب الذي تتنوّع سُبله وتتفاقم. يأتي ذلك عبر خمسة فصول ينظّر فيها للمسألة، سارداً نظريات نشأتها وصورها وتطوراتها وتأثيراتها السياسية والاجتماعية والأخلاقية في المجتمعات العربية والغربية على حد سواء، إذ إنها ظاهرة عالمية لها تداعياتها المدمّرة على كل المجتمعات والدول والأفراد. يتناولها بتعمقٍ في سياقها الإسلامي تاريخياً، وصولاً إلى شكلها المعاصر في الحركات الإسلامية المتطرفة «كالقاعدة وأخواتها» على حدّ تعبيره.
بداية، يقدّم المؤلّف توطئة شاملةً للعنف بتعريفه اللغوي ومظاهره البشرية وكيفيّة تناوله وفهمه من قِبل مختلف المدارس النظرية، منتقلاً إلى التعريف بالإرهاب بوصفه أكثر أشكال العنف توتراً ودموية. وإيغالاً في التعريف، يتطرّق إلى نظريات «العقد الاجتماعي» الغربية في تفسير ظاهرة العنف، مرتكزاً إلى أبرز العلماء الذين تناولوها في محاولاتهم الأساسية البارزة، فمن توماس هوبز وروسّو، مروراً بكارل ماركس وفرويد وأرندت، وانتهاءً بسارتر وفانون وفوكو وغيرهم، ولكلٍّ منهم مقاربته الخاصة به وبعصره وارتكازاته المعرفية المختلفة.
وللسياق التثقيفي الذي يوجد فيه الفرد ويتكوّن، وبالتالي تنشئته الاجتماعية، دورٌ محوري في مصائره وشخصيته وفي الخيارات التي يتبناها ونزَعاته في التعاطي وميوله السلوكية. لذلك؛ ولتحليل العنف والإرهاب، فإن الثقافة بما هي ذاكرة للمجتمع بقيمها وأساليبها التربوية، وفق ما يذهب إليه المؤلف، من أهم المفاصل التي يجب الركون إليها في تكوين صورة مكتملة للعنف ومظاهره. هذا ما كان في الفصل الثاني من الكتاب، فضلاً عمّا أُثبت فيه من شرح لأنواع العنف المختلفة وتبيانها بشواهد وافية، أكثرها وضوحاً الحرب وارتباط العنف بالسلطة نفسياً.
يعتبر مفهوم «الأصولية» من العلامات البارزة التي رافقت تفسير ظاهرة الإرهاب، سواء كان شرقياً أو غربياً.

يقترح «ثقافة التسامح» كحلّ جوهري
هي اصطلاحاً كما يعرّفها الباحث توجه سياسي فكري حديث يحتوي على نظرة مكتملة للحياة نابعة من إيمان قوي بفكرة أو اقتناع ديني، وقد أخذت تمظهراتها الأساسية في الحركات الدينية المتطرفة في مختلف الأديان. وهنا يذهب الباحث إلى توضيح كيفية تكوّن هذه الحركات عربياً والمرجعيات التي اتخذتها في ارتكازاتها العقائدية، مبيّناً الظروف السياسية والاجتماعية والتاريخية التي خلقتها. اندرجت هذه الحركات بدايةً في إطار الإصلاح السياسي الديني الساعي إلى الرجوع بالمنطقة إلى نموذج متخيّل عن الواقع الأمثل على جميع الأصعدة. وقد كانت الحركة الوهابية التأسيسية في هذا المجال، إضافة إلى «القاعدة» و»طالبان»، وأخيراً «داعش» الأكثر وضوحاً عن هذا التوجّه الأصولي المنتج للإرهاب. وحكماً، لم يقتصر هذا التوجه على الإسلام، فالكاتب يورد نماذج عن الأصولية اليهودية والمسيحية أيضاً، وخصوصاً في القرون الوسطى وما أنتجته من حروب صليبية وحركات إصلاحية دينية في أوروبا، على غِرار حركة مارتن لوثر.
«هناك علاقة وثيقة ومباشرة بين شيوع العنف والإرهاب والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي تسبّبه». هذا ما يخلص إليه الحيدري الذي يرى أن التحليل الاجتماعي لهذه الظاهرة الخطيرة هو الأشمل، فعلم النفس يقف حائراً أمام فهم الجذور التأسيسية لهذه الظاهرة عند الإنسان. كما تظهر إشكالية جوهرية هنا تتمثل في: «هل يولد الإرهابي بالضرورة إرهابياً؟». يجيب الكاتب بأن تشكّل الإرهابي ناتج من العوامل البيئية والاجتماعية والسياسية والدينية المختلفة التي هي مجال بحث السوسيولوجيا الأول، فللإرهاب سيكولوجيته الخاصة والدوافع والأسباب الاجتماعية التي تؤدي إلى ظهوره من «حملات التحريض الديني» إلى «غسيل الدماغ»، فضلاً عمّا أنتجته صدمة الحداثة من خضات متلاحقة في الشرق أنتجت خيبات متتالية للمبادئ الفكرية التي ظهرت نتيجةً لها، أدّت أيضاً إلى الانحياز، عند الحركات الإسلامية، إلى فهمها الخاص في مواجهة هذه الصدمة أخيراً.
الفصل الأخير يفرده الكاتب لما سمّاه «ثقافة التسامح»، في إشارة ربما إلى حلّ جوهري لظاهرتَي العنف والإرهاب. يتناول بالشرح والتفصيل مفهوم التسامح تاريخياً ودينياً، إضافة إلى أبرز الآراء والنظريات والتوجهات التي تبنّت هذه الثقافة، مروراً بعصر التنوير الأوروبي وغاندي ونلسون مانديلا. يتوقف بالشرح عند نظرية هابرماس في هذا المجال، وتفسيرات جاك دريدا الرائدة المغايرة في فهم التسامح والتزامه مفهوم الضيافة بديلاً منها. لم يغفل الكاتب هنا تناول ظاهرة أو نظرية التسامح بالنقد والتحليل، فضلاً عن إيراده نص مبادئ إعلان التسامح الذي صدر عن الأمم المتحدة، وكذلك الذي أعلنته اليونيسكو، وانتهاءً بتوثيق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. إذاً، العنف وشكله الأكثر توتراً «الإرهاب» يشكل خطراً عالمياً ومحلياً على العالم أجمع. ولتناوله ومقاربته بالتحليل والفهم والرجوع إلى بداياته وأسسه منفعة كبرى في معرفة كيفية التعاطي معه تمهيداً لاستيعابه على مستوياته المتغلغلة في كل المجتمعات الحديثة. أما أساليب مواجهته فتتمثل في تحسين طرق التربية والتعليم لتكون على أسس علمية عقلانية، وتحسين منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية من خلال تخليصها من الخرافة والجهل، وتنقية الحواضن التي ينمو فيها العنف والإرهاب، إضافة إلى إشاعة ثقافة العفو والتسامح، وتشجيع مؤسسات المجتمع المدني المتحررة من أيديولوجيات السلطة، وكذلك فصل الدين عن الدولة والسياسة بما هو عدم تبعية السلطة الحاكمة لأي عقيدة دينية تدّعي امتلاكها المطلق للحق والحقيقة.