القاهرة | في الجانب الآخر من المرآة، ثمة رجل يكتب خرافاته. هذا الهذيان الذي سيتحول لاحقاً إلى قصائد نثر خالصة. وهذا الرجل سيُدعى لاحقاً «سيد قصيدة النثر الصغير» و»عراب قصيدة النثر الأميركية». ولد راسل إدسن عام 1935 في ولاية كونكتيكت، وتوفي فيها عام 2014. طوال حياته الأدبية، تفرّغ إدسن لكتابة قصيدة النثر وغيرها من الفنون الأدبية، وأصبح لاحقاً أحد أهم كتّاب قصيدة النثر في الولايات المتحدة الأميركية... تلك القصيدة التي ستنتشر في ما بعد كالنار في الهشيم. كان إدسن يبحر عكس التيار، يأخذ من طين الأرض ما يحتاج، ويشكل عرائسه الأبجدية. قصيدة النثر عنده أشبه بحيوان أليف، يعطف عليه، ويمنحه الصفات التي يريد.
يرى إدسن أن الأحلام مادة خصبة لكتابة قصيدة نثر مميزة. لكن الأهم من هذا هو ذلك الخط الفاصل بين الحلم والواقع. لقد كره الكليشيهات الثابتة التي تضع قصائده في إطار مدرسة بعينها. حاول كثيرون أن يربطوا قصائده بالسوريالية، أو بالأحرى السورياليين الجدد. من هنا كانوا يربطون كتابته بجيمس تيت. لكن المترجم المصري أحمد شافعي يرى أنّ قصائده في الأساس نتاج لفن برع فيه الأميركيون، ألا وهو فن التحريك (Animation). ويضيف إن غَس والد إدسن كان رسام كاريكاتور شهيراً، وقد تأثر إدسن في بداياته بالفن قبل أن ينضم في سن السادسة عشرة إلى اتحاد طلبة الفن. وبالرغم من التراكيب والأفكار الغريبة التي تكتنف قصائده، إلا أن القصيدة في النهاية لها منطق وتخضع لفكرة حاكمة أشبه بالمظلّة. يُمكن القول إن إدسن هو عرّاب قصيدة النثر الأميركية. إنه يكتب ما يمليه عليه عقله كأن يجلس على أكوام أوراق بيضاء، وكل ما يفعله هو الاستجابة لتلك الأفكار التي يفرزها العقل من وقت إلى آخر.

فضّل الكتابة بما يشبه «المحو»، فالقصيدة الناجحة، برأيه، هي تلك التي تحتوي على أقل عدد من الكلمات

تلك الكتابة العبثية التي يبتكر منها إدسن أسلوبه الخاص في الكتابة، تجعل الشعر أشبه بمغناطيس كبير يلتقط الأحلام، والأوهام، والهواجس، والمخاوف، والأفراح التي تعترينا يومياً. يدرك إدسن أن الإنسان نقطة في الوجود الكبير، فما هو غير عقلاني، قد يتحول في نهاية المطاف إلى شيء عقلاني تماماً.
يكتب إدسن قصائد سريعة. ورغم سرعتها، فإنّها تعيد ترتيب مفردات الوجود حولها من جديد في إطار ساخر يغلب عليه التكثيف والعفوية. ظلّت قصائده تشبه الومضات السردية التي تومض عند نقطة معينة لتكشف لنا بحرص معالم الطريق التي نسلكها. تلك الومضات الخاطفة تشبه ساحراً بقبعة سوداء فسيحة حالما يخلعها، تنطلق منها حيوانات، وطيور، وشجيرات، وحلزونات، وسحب، وإطارات صور تحتاج إلى نفث الغبار عنها. يجلس إدسن على مقعده الشاغر في منتصف الغرفة تماماً، ويمسك بفرشاةٍ من ألوان فوضوية ليلوّن ذلك الحجر الذي نصبه كميناً لأحلامه الطازجة. ربما أهم ما يميز كتابة إدسن التي جعلت قصيدة النثر الأميركية فضاءات جديدة هي تلك القدرة على اقتناص الجنون، وصياغته في قالب شعري. كأن نتخيّل ذلك الرجل ورقة شجر في فصل الخريف، أو ذلك الأب الذي يُولد مصاباً بالغثيان، وكذلك ذيل الجرذ الذي يلهم كتّاب الأغاني.
وبالرغم من هذا التفرّد الذي صاغه إدسن في قصيدة النثر الأميركية، إلا أنه ظلَّ شديد التواضع تجاه ما يكتبه، وتجاه جمهوره. تشبه كتابته التحرر من مخالب العالم المحيط، كأنه يكتب لنرمي عن كواهلنا تلك النتوءات اليومية التي تثقل الروح. يدفعك باستمرار كي تمسك بورقة وقلم، وتحرر تلك الطاقة الكامنة بداخلك لصنع عالمك الخاص. كأن الكتابة عن الذات هي نقطة تعادل تحتاج إلى قطرة ملوَّنة من الأحلام أو الواقع كي تكشف دواخل النفس البشرية. يفضل إدسن الكتابة بما يشبه «المحو»، فالقصيدة الناجحة ــ من وجهة نظره ــ هي التي تحتوي على أقل عدد ممكن من الكلمات. تخيّل لو أن هناك قصيدة نثر لا تتجاوز أدوات التعريف أو النكرة. وبالرغم من الشهرة الواسعة التي حققها خلال حياته الإبداعية، بقي مخلصاً لفنه، ومتواضعاً أمام قصيدته. رأى أنّ القصيدة التي يكتبها ليس لديها سوى تأثير سيئ على كاتبها. من هنا يُمكن القول إن المساحة البيضاء هي وطن راسل إدسن الحميمي، فهو أشبه بلاعب كرة القدم الذي ينطلق في ملعبٍ أخضر يخلو من الحواجز والخطوط البيضاء العريضة. كتابة تخلو من الشوائب والتوابل البلاغية، لم يطمح يوماً إلى جعلها تتلاءم مع أي نوع أدبي، حتى مع قصيدة النثر نفسها. كان يكتب قصيدة معفاة من تعريف القصيدة، ونثراً مجرداً من ضرورات الخيال.
يقول الشاعر الأميركي تشارلز سيميك «لو شئت أن تعرف ما الذي تقدر عليه قصيدة النثر، فاقرأ إدسن». كأن الأخير تفرّد بأصالته الخاصة النابعة من نبتته الأميركية الصُنْع. أحياناً يُمكن أن نتخيل إدسن بسيجارة صفراء وصفّ لا ينتهي من أكوام الأوراق، وكلّما أحرق قصيدةً، أتى بغيرها. كانت لإدسن طاقة تحريضية هائلة على كتابة الشعر.

ما بدأه الفرنسيون
على يد شارل بولدير،
وآرثر رامبو، قبض عليه هذا الجيل الأميركي ومنحه من فيضه
وبالرغم من أن تلك الكتابة تغلب عليها الغرابة والغموض، إلا أنّها اهتمت بتلك الوظيفة الصحافية بما فيها من تسلية ومتعة. الكتابة الصحافية الموجزة في بعض حالاتها تميل إلى التسلية والترفيه، تلك التي حرص إدسن خلال العديد من قصائده على المحافظة عليها. في قصيدة بعنوان «النوم» يقول: «كان هناك رجلٌ لم يعرف كيف ينام؛ في كل ليلةٍ، يومئ برأسه ساقطاً في نومٍ باهتٍ، غير احترافي. نومٌ كان قد أصبح متعباً من نومه حاول قراءة الدليل إلى النوم، ولكن ذلك جعله ينام. ذلك النوم القديم ذاته الذي أصبح متعباً من نومه... احتاج إلى معلّم نوم، الذي سيمكنه بسوط وكرسي من أن يروّض الليل، ويجعله يقفز عبر حلقاتٍ من نار الغازولين. أحد باستطاعته أن يجعل نمراً يجلس على كرسي صغير ويتثاءب».
يمتاز معجم إدسن الشعري بالتجدد والخصوبة، فالمفردات الكونية بحدّ ذاتها هي مادة خصبة لقصائده، وخصوصاً تلك النظريات التي ترتبط بالفيزياء والرياضيات كنظرية «الانفجار الكبير»، والأحلام، والسينما الصامتة، والمعادلات الكونية، وتجارب علم النفس. لم يكن إدسن شاعراً قليل الإنتاج. خلال حياته الأدبية كتب القصص القصيرة والمسرح والرواية والشعر والنقد؛ منها «حجر لا يخصّ أحداً» (1961)، و»مطبخ المخ» (1965)، و»ما يمكن لرجل أن يرى» (1969)، و»المسرح الهادئ» (1973)، و»المرض المتساقط» (1975)، و»مع بالغ الأسف» (1980)، و»الإفطار الجريح» (1985)، و»تيك توك» (1992)، و»النفق» (1994)، و»المرآة المعذبة» (2000)، و»زوجة الديك» (2005). آمن إدسن بالأصالة وجوهر الأشياء، ومضى في طريقه من دون أن يلتفت وراءه كأنه أراد القول بأن قصيدة النثر الأميركية أصبحت علامة فارقة، وأنا واحد من الذين ساهموا في ذلك.