أخذ الموت، فجر أمس، رئيس هيئة دعم أهالي المعتقلين في السجون السورية "سوليد"، غازي عاد. نعته الهيئة التي قادها منذ 27 عاماً، ولجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، بوصفه رمزاً من رموز النضال من أجل معرفة مصير أكثر من 17419 إنساناً وإنسانة وقعوا ضحايا الخطف والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري بين عامي 1975 و1990.اختار غازي عاد منذ 27 عاماً تكريس حياته لهذه القضية التي أوصدت الدولة اللبنانيّة بابها في وجهها، عندما طوت صفحات الحرب وأصدر المجلس النيابي قانون العفو عن جرائم الحرب ومرتكبيها، تاركة عشرات آلاف الأسر تواجه جروحها العميقة وحدها، محرومة من أبسط حقوقها في معرفة ما أصاب ابناً أو ابنة أو أباً أو أماً أو زوجاً أو زوجة أو أخاً أو أختاً.
رحل غازي عاد تاركاً خلفه قضية تحتاج إلى مناضلين حقيقيين، مثله، لإكمال المسيرة.
رحل وهو مُحاطٌ بأجهزة طبيّة، في العناية الفائقة في مستشفى "رزق"، عملت قدر المُستطاع لإبقاء نبض الحياة فيه منذ أكثر من أسبوعين، لكن من دون جدوى. دخل في غيبوبة منذ السادس والعشرين من تشرين الأوّل الماضي، أضعفت أعضاءه وقضمت ما تبقى له من فرص نجاة. يقول شقيقه جهاد: "هالسنة كانت صعبة ع غازي. جسمه تعب كتير. ووضعه الطبيّ مش منيح. بس هيدي مشيئة الله".
59 عاماً من حياة غازي، يجزم جهاد بأن نصفها كان خدمة لقضية لم يحدْ عنها. يذكر شقيقه عشرات المرّات التي اقتُحم فيها منزل غازي واعتُقل، إلّا أنه بقي عنيداً للحقّ، يرفض الاستسلام وفاءً لأهالي حرّك هو آمالهم بمعرفة مصير أحبائهم بعدما فقدوا الثقة بالدولة المتواطئة على أبنائها.
رفاق النضال والقضية لا يصدّقون رحيله. وداد حلواني، رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، تعجز عن التعبير؛ تقول "لم أعتد الحديث عن غازي، فأنا عادة أتحدّث معه ونتناقش ونخطّط ونتشاجر ونتصالح. حمل غازي وضعه الصحي، وحمل معه قضية شائكة غير معني بها بطريقة مباشرة، كونه لم يفقد أحد أفراد عائلته، فكان مناضلاً حقيقياً تفرّغ للقضية. لم يرد يوماً التخفيف من الظلم الذي سبّبه فقدان الأحباء، بل كان يسعى لإزالته".
الأمر مماثل بالنسبة إلى فيوليت ناصيف وصونيا عيد اللتين فقدتا رفيق النضال. أمّا وديع الأسمر وفاضل الطيّار فتمرّ ذكريات الاعتقالات والتظاهرات أمامهما كشريط عاجل، وهما عاجزان عن إيقافه في لحظة ما، تسبق الموت. يجزم الأسمر بأنه "لولا إصرار غازي ومثابرته، لما كان هناك قضية للمعتقلين في السجون السوريّة". كان يمضي وقته لمتابعة هذا الملف. فعلياً لم يتابع أي قضية أخرى، بل أفنى حياته في قراءة ومتابعة أحدث التقارير، والتواصل مع سفراء وجمعيّات حقوقيّة دوليّة ومحليّة، والتفاعل مع الأهالي والمحاربين السابقين علّه يضيف معلومة إلى موسوعته الضخمة عن الملف. ولسخرية الموقف، كانت الحقيبة التي تسلّمها أهالي المفقودين عام 2014 من الدولة اللبنانيّة فارغة. ولم يكتف بذلك، إذ لم يوفّر وسيلة لإيصال الصوت، من التظاهر إلى الإضراب عن الطعام، والتنقّل بين عواصم القرار. يتابع الأسمر: "كان غازي موسوعة عن المخطوفين، حفظ أسماءهم وملفّاتهم عن ظهر قلب، وكان المرجع لإمدادنا بأي معلومة سريعة".
غازي عاد ليس بطلاً ولا جبّاراً بل إنسان حمل قضية وقاتل في سبيلها

منذ 27 عاماً، قاد غازي عاد حركة نضاليّة مشرّفة لمعرفة مصير المعتقلين في سوريا، أطلقها مع فاضل الطيّار، شقيق المعتقل طانيوس الطيّار منذ عام 1978. سوّق حملة واسعة عبر وسائل الإعلام، مستنداً إلى تقرير خاصّ صادر عن منظّمة العفو الدوليّة حول التعذيب في السجون السوريّة ذكر فيه أسماء لبنانيين، كذلك استعان بملفات جمعها خلال عمله مع "مكتب التنسيق الوطني" في قصر بعبدا تفيد بوجود نحو 650 معتقلاً هناك، وتعرُض معلومات عن واقع وفظائع التعذيب الذي يتعرّضون له.
حمل غازي الراية، ولم يمنعه الشلل الرباعي الذي أصيب به عام 1983، نتيجة حادث سير، من خوض المعركة. منذ عام 1990 حتى انسحاب الجيش السوري، اعتقل مرّات ودوهم منزله مرّات أكثر، وتعرّض لكثير من الاعتداءات في التظاهرات التي شارك فيها. لعلّ صورته على كرسي متحرّك وهو يتعرّض للضرب من عنصر أمني أصدق تعبير عن صدق نضاله.
عام 2005، بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، ضمّ عاد صوته إلى صوت كلّ أهالي المفقودين والمخطوفين في الحرب اللبنانيّة والمعتقلين في السجون الإسرائيليّة والسوريّة، للمطالبة بعدالة بقيت مبتورة منذ سكوت المدافع. فهو لطالما اعتبر أن حرقة الأمّ، هي نفسها، أينما كان ابنها محتجزاً، وأينما كان مفقوداً، وسواء كان حياً أو ميتاً، مدفوناً في مقبرة جماعيّة أو مرمياً في البحر أو في سجن تحت الارض. في 11 نيسان 2005، نُصبت خيمة الأهالي في حديقة "جبران التويني" المُقابلة لمقرّ "الإسكوا" بمبادرة منه ومن وداد حلواني، لإبقاء القضية حيّة في الذاكرة. هناك علّق غازي ووداد صور المفقودين والمعتقلين، وكانا يضيفان إليها صورة كلّ أم توفيت أو أب رحل قبل لقاء ابنه. ونجحت الحملة عام 2012 في الحصول على انتصار قضائي قضى بصدور حكم عن "مجلس الشورى الدولة" يكرّس حقّ الأهالي في معرفة مصير أولادهم.
لم يتعب غازي يوماً إلّا من قلّة الضمير، لذا قرّر قبل عام إغلاق الخيمة التي جلس فيها يومياً لمدّة 11 عاماً، وأضرب فيها عن الطعام، وتحدّى الظلم ولم يتراجع. لم يثنه عن قراره سوى تمنيات الأهالي بترك الخيمة شاهدة على جروح لم تلتئم منذ أربعين عاماً.
رحل غازي عاد قبل إقرار قانون "الأشخاص المفقودين وضحايا الإخفاء القسري" المُفترض إحالته إلى لجنة الإدارة والعدل بعد أن مرّ على لجنة حقوق الإنسان المؤلّفة من كلّ الكتل والأحزاب اللبنانيّة، والذي من المتوقّع أن يضع آلية واضحة لنبش المقابر الجماعيّة، وإنشاء الهيئة الوطنيّة للمفقودين والمخفين قسراً، وبنك المعلومات للحمض النووي للأهالي، والتصديق على المعاهدة الدوليّة لحماية الأشخاص من الإخفاء القسري. لذا، وبعيداً من ترداد عبارات إراحة الضمير، والتفلّت من آثام التقصير تجاه قضايا هذا المجتمع، وإطلاق الشعارات. فغازي ليس بطلاً ولا جبّاراً. غازي إنسان، حمل قضية أبت الدولة تحمّل مسؤوليتها عنها، ولم يتراجع عن المطالبة بمعرفة مصير المفقودين والمخفين قسراً. إن المضي في نضال أطلقه غازي عاد واجب، لمعرفة مصير 17419 مفقوداً ومعتقلاً ومخفياً ... كلّ ما يحتاجون إليه وتحتاج إليه عائلاتهم هو سلام حقيقي: سلام غير مزيف.




تحية إلى غازي في خيمة الأهالي

نعت لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين قسرا في لبنان، أمس، رئيس هيئة دعم اهالي المعتقلين في السجون السورية "سوليد" غازي عاد، أحد "رموز قضية المفقودين والمخفيين قسرا". ودعت جميع محبي وأهالي غازي وأصدقاء القضية الى "إلقاء تحية الوداع"، غدا، الجمعة عند العاشرة صباحا، أمام خيمة اعتصام الأهالي في حديقة جبران خليل جبران مُقابل مبنى الاسكوا في بيروت. وكانت رئيسة لجنة أهالي المفقودين وداد حلواني قد نعت عاد على صفحتها على مواقع التواصل الإجتماعي "فايسبوك"، ودعت الى المُشاركة يوم غد من أجل القاء نظرة الوداع. وسيلي هذا اللقاء إجراء مراسم الدفن في كنيسة سيدة "الحبل بلا دنس" في الدليبة-المتن الاعلى عند الساعة الثالثة من بعد الظهر، على أن تُقبل التعازي في صالون الكنيسة ايام الخميس (اليوم) الجمعة والسبت.
ونعى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في بيان أصدره، أمس، عاد وقال: "يغيب اليوم غازي عاد بالجسد لكنه يبقى حاضرا بدفاعه عن حقوق كل انسان ونضاله لأجل كل مفقود ومغيب"، مُضيفا: "سيظل غازي نموذجا وقدوة وحافزا لاستمرار الرسالة". كذلك اتصّل الرئيس المكلف تأليف الحكومة سعد الحريري بعائلة غازي معزيا. الكثير من الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي رثوا الفقيد وأبدوا حزنهم لخسارته.
يُذكر أن الناشط الحقوقي عاد، كان قد كرّس مسيرته من أجل المطالبة والبحث والعمل على الكشف عن المفقودين والمخطوفين خلال الحرب الأهلية، وخصوصا المخفيين قسرا في سوريا.