يوجد في العاصمة بيروت، في منطقة عين المريسة تحديداً، شارع باسم بيارد دودج. في ثلاثينيات القرن الماضي، كان دودج هذا رئيساً للجامعة الأميركيّة في بيروت. كان له وظيفة أخرى أيضاً، وهو جدير، مِن الآن فصاعداً، أن تكون عنوان شهرته... إنّه الأكاديمي الأميركي «الفسّيد» (تُطلق على النمّام والواشي في اللبنانيّة المَحكيّة - الساخرة). كان لبنان آنذاك تحت «الانتداب» الفرنسي.حصلت «الأخبار» على وثيقة دبلوماسيّة فرنسيّة، تحمل عنوان «اكتشاف منظّمة سياسيّة سريّة» في لبنان، مؤرّخة في 29 تشرين الثاني 1935. الوثيقة عبارة عن برقيّة مرسلة مِن «المندوب السامي» الفرنسي في لبنان، دو مارتل، إلى وزير خارجيّة بلاده في باريس. أرفقت البرقيّة بتقرير رفعه مفتش عام المؤسسات الفرنسيّة آنذاك إلى دو مارتل، يَتحدّث فيه عن لقائه بدودج، فيقول: «قابلني السيّد دودج، رئيس الجامعة الأميركيّة في بيروت، والسيّد بيانكي الأستاذ فيها، فتحدّثا عن تورّط بعض الشبان في موضوع الحزب السوري القومي (الاجتماعي). وقد حرص المسؤولون في الجامعة، ليس فقط على توضيح أن ليس لهم أيّ علاقة بهذه المنظمة، بل على إثبات أنّهم يشجبون العواطف المضطربة والعنيفة التي حرّكت المحرّضين على هذا التجمع ومنظّميه». ويضيف الفرنسي، بحسب الوثيقة، أنّه «خلال الصيف الماضي، لاحظ عميد كليّة الفنون والعلوم السيّد نيكولاي، سلوكاً مشبوهاً لأنطون سعاده، فأعلم الرئيس دودج بذلك، والأخير حذّر بدوره الأمن العام في شهر تشرين الأول. إنّ مدراء الجامعة بدوا لي متأثرين جدّاً لرؤية اسم المؤسسة يُذكر مراراً وتكراراً في الصحافة المتعلّقة بهذه القضيّة. وهم لا يَشكّون في أننا نتوقع منهم تصحيح سلوكهم تجاه السُلطة التمثيليّة (سلطة الانتداب). مِن الواضح، أيضاً، أنّ هذه الأعمال تُشكّل لهم مُشكلة ضمير، فإنّهم يتساءلون عن نتائج أفعالهم، كما يتساءلون بقلق وباسم المثاليّة الدينيّة التي تُلهمهم، ما إذا كانوا قد ساهموا، هم أنفسهم، في خلق هذا الاضطراب العقلي والقلق النفسي الذي تُظهره هذه القضيّة في الشباب السوري» (آنذاك كان يُقصد بالسوريين أبناء سوريا ولبنان وأبعد مِن ذلك أيضاً، كما أن الجامعة الأميركيّة في بيروت كان اسمها الرسمي الكليّة السوريّة البروتستانتيّة، وذلك منذ تأسيسها عام 1866)».
اتهم سعاده بالنازية علماً أنه واجه محازبين مراراً:
احذروا الدعاية النازية والفاشية

ويُكمل التقرير المرفق ببرقيّة «المندوب السامي» دو مارتل: «بعض التوضيحات التي أعطيت لي، حول المتهمين، تُظهر أن ليبراليّة المؤسسة تُساهم في خلق أجواء التعصّب والشحن والطائفي الذي يَسود في بعض التكتلات داخل الجامعة، وحتى بين الأساتذة». هكذا، أخيراً كُشِف أمر سعاده و«تنظيمه السريّ» الحديث. أدّى هذا إلى اعتقاله مِن قبل القوات الفرنسيّة، وكلّ هذا «بفضل» رئيس الجامعة الأميركيّة دودج، وهو الأكاديمي العلمي «الليبرالي» جدّاً كما يقول الفرنسيّون في وثيقتهم. أكثر مِن ذلك، تتحدّث البرقيّة عن «شحن طائفي»! إن كان ثمّة ما يُقرّ به العدو قبل الصديق، لسعاده، أنّه كان أحد أبرز المناضلين ضد الطائفيّة. عجيب! تُظهر هكذا وثائق حجم اللغط والمسخ والسطحيّة على المستوى الثقافي، آنذاك، بين المسؤولين الدبلوماسيين الغربيين أنفسهم، رغم أنّهم، منذ ذلك الحين وقبله وبعد، يُقدّمون أنفسهم على أنّهم «أساتذة العالم». كلّ جامعات العالم، وفي ذلك الحين تحديداً، يُمارس فيها النشاط السياسي كفعل اجتماعي طبيعي، لكن عندما يتعلّق الأمر بـ«السوري» أنطون سعاده، وبقضيّة «نهضة» وتحرر مِن «الانتداب» ومِن كلّ سلطة أجنبيّة، تُصبح هذه مُشكلة تعذّب «ضمير» رئيس الجامعة الأميركيّة، ويُصبح هكذا نشاط، عندهم، مِن قبيل «العواطف والعقول المضطربة». بالمناسبة، لم يأتِ سعاده في كتاباته لاحقاً، وصولاً إلى يوم إعدامه، على ذكر الجهة التي وشت به إلى الفرنسيين على وجه التحديد. ربما رحل ولم يَعلم أنّ مَن فعلها هو دودج الأميركي.
وتُكمِل البرقيّة الدبلوماسيّة الفرنسيّة، السريّة آنذاك، متحدّثة عن سعاده. يَلحظون فيها أنّه لم يَبلغ بعد الثلاثين مِن العمر، وبالتالي فهو «غير قادر على الحكم السليم والصحيح». يَلعبون هنا دور الأب الحكيم، الفاهم، إنّما بأداء سخيف. ثمّ يَرتفع منسوب السخافة عندما يورد «الحاكم الفرنسي» أن سعاده متهم بـ«النازيّة». هذا ما درج عليه المسؤولون الفرنسيّون، وجاراهم فيه العديد مِن الساسة، فضلاً عن المُحللين لظاهرة «الحزب السوري القومي الاجتماعي». بالنسبة إلى الفرنسيين، كلّ مَن يَسعى لطردهم مِن البلاد التي احتلوها لا بدّ أن يكون على علاقة بإيطاليا (الفاشيّة) أو ألمانيا (النازيّة). هنا «يقع» الفرنسي في تحليله لسيرة سعاده، قائلاً: إنّه «تلقى علومه في البرازيل وألمانيا». حسناً، البرازيل نعم، أمّا ألمانيا فلم تكن قدما سعاده قد وطأتا أرضها. هذا مقطوع به. زارها لاحقاً، بعد سنوات، كمحطة في رحلة سفر طويلة، إنّما في تاريخ البرقيّة الفرنسيّة لم يكن هذا قد حصل، وبالتالي فإنّ هذه «الواقعة» إنّما تُشير إلى «بروباغندا» مفترضة أُعدّت سلفاً لإسقاطها على سعاده. الآن، مع هكذا وثائق، لحقبة ما قبل اندلاع الحرب العالميّة الثانية، تتضح صورة التاريخ أكثر.
كاتب التقرير (الرسالة) المرفوع إلى وزارة الخارجية الفرنسيّة، عبر (المندوب) دو مارتل، هو شخص يُدعى بونوار (مفتّش عام المؤسسات الفرنسيّة). هذه الرسالة المرفقة رقمها الأرشيفي 1130. أما البرقيّة الأصليّة فرقمها 637. المُهم، يختم كاتب التقرير الفرنسي قائلاً: «تبيّن أنّ مسألة الحزب السوري القومي (الاجتماعي) ليست خطيرة، وأنّها لا تحمل عواقب سياسيّة، إلا أنّ أهميّتها تكمن في كونها دليلاً نفسيّاً يعكس الاضطراب الداخلي لدى الشباب اللبناني والسوري. فهي تكشف ارتباكاً فكريّاً شديداً، ومزيجاً غير متجانس تجتمع فيه أسوأ النيّات، مع الاندفاعات السخيّة والمشاعر النقيّة. الرئيس دودج (الجامعة الأميركيّة) يُشبه الساحر المبتدئ، الذي يَرتاح أمام الطاقات التي يُطلقها مِن دون انتباه، وقد شكّل فضيحة كبيرة للرئاسة العليا في الجامعة التي تتبع المذهب البروتستانتي».
إذاً، هذه هي لغة «الأنوار» في السياسة الفرنسيّة (عندما تكون تحت الطاولة). هكذا يسخرون أيضاً مِن شخصيّة رئيس الجامعة الأميركيّة. في الواقع، بحسب ما ورد في البرقيّة، فإنّ دودج بحق يتوفّر على منسوب عالٍ مِن التفاهة. إضافة إلى ذلك، يَتضح، بحسب الفرنسي، أنّ «المثاليّة الدينيّة التي كانت تلهم دودج» هي التي دفعته للنميمة وكشف موضوع الحزب. الواقع أنّ دودج عندما أدرك أنّ مصالح بلاده، المُحتلّة للبلاد هنا، في خطر، أسرع إلى دق جرس الإنذار. هذا «التحسّس» المُبكر يُسجّل له. بالمناسبة، كان لهذا الشخص وجه آخر سنة 1933 (أي قبل عامين مِن الوشاية)، وذلك عندما أرسل إلى سعاده يمدحه ويشيد بمؤلفه «عيد سيدة صيدنايا وفاجعة حب» قائلاً: «ولجتم في الأدب العربي باباً لا يزال موصوداً دون الكثيرين، هو الفن القصصي الجميل الذي تفتقر إليه اللغة، وهي الآن في طور نهضة ونمو» (المجلة، بيروت، 1933 المجلد الثامن، ص 71). هذا الكلام عن مؤسس «الحزب السوري القومي الاجتماعي» انقلب رأساً على عقب عندما أدرك صاحبه الأميركي أن سعاده حقيقة لديه مشروع نهضوي، فأسرع إلى المُحتلين للتحذير والإنذار والاعتذار.
إلى ذلك، لم تستطع المحكمة الفرنسيّة المختلطة، التي حاكمت سعاده ومعاونيه، إثبات تهمة «الاتصال بالأجانب» (وكأن هذه المحكمة ليست أجنبيّة!). هذه التهمة التي أصبحت «حقيقة تاريخيّة» عند كثيرين مِن معارضي مشروع سعاده، يأتي في طليعتهم سلطات «الانتداب الفرنسي» ورجال الدين الذين أصدروا كتباً، ردّاً عليه، تَعتبِر أنّ مُجرّد فصل الدين عن الدولة هو «الإثم الكبير» (خاصة رجال الدين مِن المسيحيين آنذاك). أمّا السياسيّون التقليديّون، المتنافسون فيما بينهم للوصول إلى المناصب، فكانوا يتملّقون للفرنسيين أو البريطانيين في حقبة صراع الدولتين على بلاد المنطقة. ناهيك عن زعماء «الكتلة الوطنيّة» في دمشق الذين تعرّف إليهم سعاده مباشرة عندما عاد إلى الوطن مِن البرازيل سنة 1930. لقد خبر سعاده أولئك الزعماء والتنافس فيما بينهم، ومِنهم الذين سلّموا فيما بعد بقرار فرنسا تسليم لواء الاسكندرون إلى الأتراك. وهم أنفسهم مِن الذين تآمروا على الثورة في فلسطين، وذلك عام 1936 عندما كان جميل مردم يُفاوض الزعيم الصهيوني حاييم وايزمن في باريس على رأس ثوار فلسطين، مُقابل التوسط مع رئيس الوزراء الفرنسي ليون بلوم لإعطاء البلاد السوريّة نوعاً مِن الاستقلال (أرشيف بن غوريون). مِن بين قلّة ثبتوا على موقف لصالح بلادهم، بكل وضوح، كان عبد الرحمن الشهبندر. كانت علاقته ممتازة بسعاده. جرت تصفية الشهبندر لاحقاً مِن قبل بعض زعماء «الكتلة الوطنية». كان ممنوعاً على هذه النوعيّة مِن الناس أن تحيا. مجرّد حياتهم تمثل خطراً على مسار اللعبة الكبرى.
يَنضم إلى قائمة «أعداء» سعاده، آنذاك، أحزاب طائفيّة شجّعت سلطات الانتداب على تأسيسها، وذلك بهدف التأثير على «الحزب السوري القومي الاجتماعي» وانتشاره في أوساط الطوائف كافّة. يَذكر تقرير صادر عن المفوضيّة العليا لـلمندوب السامي الفرنسي في سوريا (رقمه 193) بتاريخ 13 أيلول 1940 لمحة عن تأسيس الحزب، وفيه أنّ «نشاط سعاده ابتدأ سنة 1931، لكن الحزب جرى الإعلان عنه فقط في عام 1935، حيث أخَذت السُلطات علماً في صيف ذلك العام بنشاطات سعاده... وهو يُعرّض أمن المجتمع للخطر، ويدعو إلى النضال ضد سيطرة ونفوذ رجال الدين، والأخطر هو توجّه الحركة الاستقلالي، الذي يدعو إلى الاستقلال التام لسورية والسعي لقيام جبهة عربيّة». هكذا، الفرنسيّون، ورثة فولتير، يَرون هنا النضال ضد سيطرة رجال الدين على المجتمع «جريمة». يَعترف التقرير بالأثر السلبي للإعلان عن اكتشاف تنظيم «الحزب السوري القومي الاجتماعي» صبيحة 16 تشرين الثاني 1935 في بيروت، فيقول: «في اليوم التالي، انتشر خبر اكتشاف الحزب في لبنان، مِن خلال تعليقات الصحف الطويلة، فغدا أنطون سعاده للحال مشهوراً. أثار هذا الخبر ضجّة كبيرة وخلق شعوراً مِن التعاطف مع هذا التيار الجديد نتيجة لجرأة عقيدته».
واجه سعاده المحكمة المختلطة بخطاب رد فيه على اتهامات العلاقة بالأجانب، قائلاً: «وبناء على توجيه الكلام إليّ بأن الحركة التي أقوم بها هي تقليد لحركات أوروبيّة، أقول أنّ لا تقليد عندنا مُطلقاً. لسنا مِمَن يتبعون شارات الغير، وبعبارة أوضح لسنا تحت تأثير أي عامل أجنبي». في تلك الحقبة، حقبة الحرب العالمية الثانية، وما سبقها وما تلاها، كانت وصمة «النازيّة»، وما زالت إلى حد ما، بمثابة «وصمة عار» العصر الحديث. كثيرون، قديماً وحديثاً، وصموا سعاده بها، رغم ما له مِن تصريحات ومواقف، على المستوى المنهجي والتأسيسي لحزبه، تنفي ذلك. مِن تلك الشواهد، أنّه في حزيران 1935، وقبل انكشاف أمر الحزب بنحو ستة أشهر، ألقى سعاده في اجتماع سريّ للأعضاء خطاباً وصفه بالخطاب المنهاجي الأول، وقد جاء فيه: «أريد في هذه المناسبة أن أصرّح أنّ نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي ليس نظاماً هتلريّاً، ولا نظاماً فاشيّاً، بل هو نظام سوري بحيث لا يقوم على التقليد الذي لا يفيد شيئاً، بل يقوم على الابتكار الذي هو مِن مزايا شعبنا» (الآثار الكاملة، الجزء 2، ص 6، بيروت 2001). في موقف آخر، يقول سعاده: «إننا نشعر الآن بوجود دعاية إيطاليّة قويّة في هذه البلاد خصوصاً، وفي الشرق الأدنى عموماً. كذلك نشعر نحن بمثل هذه الدعايّة من جهة ألمانيا، وبمثل ذلك مِن دول أخرى، فزعامة الحزب السوري القومي الاجتماعي تُحذّر جميع الأعضاء مِن الوقوع فريسة الدعايات الأجنبية... إننا لا نعترف بمبدأ الدعاية الأجنبية. يَجب أن يَبقى الفكر السوري حرّاً مُستقلاً. أمّا المصالح المُشتركة، فنحن مُستعدّون لمصافحة الأيدي التي تمتد إلينا بنيّة حسنة، صريحة في موقف التفاهم والاتفاق» (المصدر السابق، ص 8).
اليوم، في 16 تشرين الثاني عام 2016، يُكمِل «الحزب السوري القومي الاجتماعي» عامه الـ 84. أحد أقدم الأحزاب التي ولدت في المنطقة ولا تزال على قيد النشاط. لا يَسمح التاريخ غالباً بمحاكمات «الصح» أو «الخطأ» على نحو قاطع. ثمّة مَن يقول إنّ التاريخ يُقرأ فقط. محاولة للفهم في أحسن الأحوال. لكنّ التاريخ، في المقابل، ورغم حركته المُستمرّة، يَمكُر أحياناً (كما يقول الفيلسوف الألماني هيغل). مِن «مكر التاريخ» (بكلّ الأسى) أن يكون للأميركي بيارد دودج شارع باسمه في بيروت، ثمّ لا يكون لابن هذه البلاد، لأنطون سعاده، ساحة باسمه على مساحة هذه البلاد.