لجأت عائلته من يافا إلى لبنان بعد النكبة الفلسطينية. ولد في بيروت عام 1964، وعند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، انتقل إلى بريطانيا لدراسة الأدب، وبعدها إلى بلجيكا لدراسة السينما. في بداية نشاطه الفني، كانت له انطلاقة سينمائية لافتة مع فيلم «أحلام في فراغ» الذي أخرجه عام 1991 وعمل على قائمة من الأفلام؛ آخرها «زنديق» (2009) الذي أخرجه ميشيل خليفي. لكن مسيرته السينمائية ستتوقف هناك، لتستحوذ عليه الإدارة الثقافية، وخصوصاً بعد تمدد وتطور عمل «مؤسسة عبد المحسن القطان» التي أسسها والده عام 1993، وانخراطه في مشاريع ثقافية أخرى في فلسطين. عمر القطان يشغل اليوم منصب رئيس مجلس أمناء «مؤسسة عبد المحسن القطان»، ويرأس فريق عمل «المتحف الفلسطيني»، وهو عضو مجلس أمناء «مؤسسة التعاون». كما يرتبط اسمه بمشاريع ثقافية عدة داخل فلسطين وخارجها، هذا بالتحديد ما جعلنا نتوقف عند كلمته التي ألقاها في مسابقة الفنان الشاب التي أقامتها مؤسسته الشهر الماضي، وفاجأت كثيرين من المثقفين والفنانين؛ إذ نظر إليها بعضهم ككلمة جريئة تخرج من شخص مسؤول عن مشاريع ثقافية. كما كانت مفاجئة لمن لا يودون سماع أي نقد، أولئك الذين يعتبرون أن المشهد الثقافي عال العال ولا ينقصه شيء. كل ذلك دفع صاحب هذه السطور إلى كتابة مقال تعليقاً على كلمة القطان («عمر القطان: بكائية متأخرة... ولكن!» ــ الأخبار 26/10/2016) غرضه إثارة الحوار والإضاءة على تساؤلات كانت في محلها. وبالعودة إلى المقال الذي أثار جدلاً عند نشره، كان لا بد من التواصل مع عمر القطان لإجراء حوار موسع معه حول كلمته ــ محل النقاش ــ والعديد من القضايا في المشهد الثقافي الفلسطيني.

■ في كلمتك التي ألقيتها أخيراً في «مسابقة الفنان الشاب» في بيت الصاع في البلدة القديمة في رام الله، أثرت العديد من المواضيع؛ منها «انهيار المشروع الوطني الفلسطيني» و«العجز عن التصدي وتغيير الواقع» و«بعد العمل الثقافي عن الإنسان» كلها نقاط أثارت جدلاً، وخصوصاً بين بعض الذين قد لا يدركون أهمية النقد الذاتي. ما الذي دفعك إلى تلك الكلمة في هذا الوقت تحديداً؟
أود أولاً توضيح بعض النقاط التي وردت في كلمتي، وقمتَ أنت بتفسيرها في مقالتك بشكل مغاير لرأيي، وهنا أرجو أن تتقبل والزملاء في جريدة «الأخبار» بعض العتاب، إذ كيف يجوز أن تكتب مقالة مماثلة كأنها على لساني من دون استشارتي أو الأخذ بوجهة نظري. من باب المهنية العالية والاحترام للآخر، كنت أتمنى عليك التأكد من رأي الأشخاص المعنيين قبل نقل الكلام على ألسنتهم. هذا أضعف الإيمان، فمثلاً، كيف نسمي مجموعة من التساؤلات، التي طرحتها بغرض خلق نقاش وحوار عقلاني، «البكائية» كأني أبكي على الأطلال؟ فلسطين حية ولن تموت، وإذا اعتقد بعضهم عكس ذلك فليتنحّوا عن العمل الثقافي. كنت أطرح تساؤلات، لا أكثر ولا أقل، ولا أجلد نفسي ولا غيري. بل على العكس؛ أحترم زملائي الفنانين والكتّاب وغيرهم، ولأني أحب الثقافة الفلسطينية والعربية وأعتزّ بانتمائي إليهما. لا شخصيتي ولا توجه مؤسسة القطان ولا سياساتها تسمح لي بأن أخوض في عمليات نسف للذات أو للآخرين. إن دور الثقافة حسب رأيي هو طرح التساؤلات، لا الوقوف في سوق عكاظ لذمّ الآخرين.
بالنسبة إلى موضوع التمويل الأجنبي، فإنّ إحدى قصص النجاح الرائعة في الثقافة المعاصرة الفلسطينية تكمن في ما أنجزه الفنانون والكتّاب والمسرحيون والسينمائيون والمعلمون من حضور كبير في الفضاءات الدولية وبدعم من الأصدقاء «الأجانب»، فضلاً عن أن الثقافة الفلسطينية أصبحت مرتبطة بشكل عضوي بالثقافة العالمية «الأجنبية» ولا يمكن عزلها كأنها تعيش في دائرة مفرغة، بل بالعكس، فإن العمل الثقافي أينما وجد يجب أن يطمح للوصول إلى كل إنسان، بغضّ النظر عن أصوله.
من جهة أخرى، هناك ازدواجية خاطئة في التمييز بين التمويل الوطني والأجنبي، وكأن التمويل الوطني يكون تلقائياً أفضل من التمويل الأجنبي، أو تقدمياً أو حتى وطنياً أكثر، وهذا شيء خاطئ، فأكثر جهتين ممولتين في فلسطين هما السلطة الوطنية وحركة «حماس»، فهل تعتقد أن استثمارهما في مجال الثقافة أكثر فعالية وتقدمية من استثمار المؤسسات الأهلية؟ ثم إنّ العديد من الفلسطينيين اليوم هم أيضاً «أجانب» (أنا على سبيل المثال أعتبر نفسي عربياً وبريطانياً في الوقت نفسه، لكن لا يقلل ذلك من انتمائي الأخلاقي والسياسي للقضية الفلسطينية)، فضلاً عن الآلاف من المؤازرين في مختلف المجالات الذين يعملون في مشاريع مشتركة معنا، أو يجازفون لتقديم الدعم للشعب الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى. كفانا هذه الازدواجية. صحيح أنّ «مؤسسة القطان» مؤسسة وطنية لا تعتمد إلا بشكل ثانوي على التمويل الخارجي، لكن في خبرتي، التمييز يجب أن يكون على مستوى جودة المشاريع والتزاماتها الأخلاقية والإنسانية والسياسية، لا على هوية الممول.
أخيراً، تدّعي أن المؤسسات المشاركة في مهرجان «قلنديا الدولي 3»، لم تكن لتعمل معاً لولا شح الموارد المالية واضطرارها إلى ذلك. هذا ادعاء مجحف بحق القطاع الثقافي. هناك العديد من المبادرات الثقافية الوطنية الجماعية التي ترفع رأس فلسطين رغم الانقسامات السياسية، وليست قلنديا إلا تتويجاً لهذه الجهود. خذ على سبيل المثال النجاح الذي لاقاه «المعهد الوطني للموسيقى» في نشر نشاطه في أرجاء الضفة والقدس وقطاع وغزة، وإشراك العديد من الزملاء من «الداخل» والزملاء الأجانب ونجاحه في نشر إمكانيات تعلم الموسيقى في البلاد. لم يكن لينجح في ذلك لولا تضافر الجهود لإنجاحه. «مؤسسة القطان» أسست «مدرسة غزة للموسيقى» وسلّمتها في ما بعد للمعهد، و«مؤسسة التعاون» وعائلة الشهابي قامتا بترميم مقر المعهد في القدس... الخ. وهناك أمثلة أخرى عديدة مثل «مهرجان رام الله للرقص المعاصر» و«مهرجان العلوم» وغيرهما من الفعاليات التي تعمل على نطاق وطني جماعي غير مركزي.
«الشارع» قد يكون مصدراً للعنف والفاشية، كما قد يكون حاضنة لثقافة شعبية رائعة

لكن لنعد إلى سؤالك عما دفعني إلى طرح هذه التساؤلات في كلمتي: أعتقد أن قطاع الثقافة العالمية، لا الفلسطينية فقط، يمرّ في أزمات عديدة شبيهة بالتي طرحتها في كلمتي. لا بد من أن نعي لها لنكون سباقين في خلق البيئة التعليمية والثقافية القادرة على الرد على هذه الأزمة. إنها أزمة تجلت عن الأزمة المالية العالمية عام 2008 وكشفت عن تناقضات جمة وعميقة داخل المجتمعات والدول وفي ما بينها، والفروقات المتنامية في مستويات الدخل، وتراجع فرص العمل لدى الشباب، والتعليم وشح الموارد الطبيعية والتحديات البيئية... هذا كله من بين ما كان بعضنا ينوّه إليه قبل سنين، ألا وهو ابتعاد أيديولوجية ما بعد الحداثة (التي واكبت عملية أوسلو) عن المواضيع الإنسانية الملحة وحصر جزء من الإنتاج الثقافي في ألاعيب شكلية، وهموم نرجسية جعلتنا نجد أنفسنا أمام أزمة تلو الأخرى في الوطن العربي وفلسطين. أزمة لم نكن نتوقعها أو على الأقل لم نكن نتوقع أن تفرز هذا العنف والدمار الذي شهدناه في السنوات الأخيرة. فوجدت أن من واجبي إعادة طرح هذه التساؤلات من جديد، لا لجلد الذات، بل لخلق الحوار والوعي والفكر لدى الزملاء الفنانين والكتّاب وغيرهم، الذين يبدو بعضهم منذ سنوات، وأصرّ على كلمة «بعضهم»، واقعاً في متاهات شكلية أو شخصية أبعدتهم عن بناء علاقة جدلية ونقدية مع الواقع الذي يعيشه.

■ اليوم، وبعد 16 عاماً على انطلاق «مؤسسة عبد المحسن القطان» في فلسطين، كيف تقوّم تجربة الفترة السابقة؟
من المهم أولاً الإشارة الى أن مؤسسة القطان تعمل في ثلاثة مسارات هي: التربية والثقافة والطفولة. نرى أنها تشكل ثلاثة أوجه مختلفة؛ ولكن مترابطة للعملية نفسها. وإذا أردنا أن نقوّم عملنا، يجب أن نأخذ كل ما قمنا به في هذه المجالات في الاعتبار. وبكل تواضع، أرى أن ما حققه زملائي وزميلاتي خلال هذين العقدين كان على مستوى من الإبداع والمهنية والابتكار والالتزام الذي يجعلني أفتخر كل يوم بأني زاملتهم طوال هذه السنين الصعبة.
برنامج البحث والتطوير التربوي، الذي يعمل في جميع أنحاء البلاد بما في ذلك فلسطين المحتلة عام 1948 مع قطاع المعلمات والمعلمين، حقق نجاحات فردية وجماعية في العديد من المجالات، مثلاً في مجال الدراما في التعليم والعمل في مجال الطفولة المبكرة والتوحد، وتعليم العلوم والتعلم عبر المشروع وتقويم المنهاج الرسمي واستخدام الدمى... أما مركز الطفل في غزة بمكتبته الواسعة ومسرحه ومختبراته في العلوم والمعلوماتية والفنون، وخدمته الممتدة ومكتبته المتنقلة في مختلف أرجاء قطاع غزة، ولا سيما المهمشة منها؛ فلا أبالغ إن شاطرت العديد من زائريه بتسميته «واحة» في ظل الحصار الإجرامي المفروض على غزة.
أخيراً، هناك «برنامج الثقافة والفنون» الذي كان بالفعل سبّاقاً على صعيد الوطن العربي. منذ انطلاقه في عام 1999، يعمل في شتى مجالات الإبداع الثقافي ولا سيما الشبابي، ومع كل الفلسطينيين أينما وجدوا، ومع العديد من أترابهم العرب والأجانب. وقد انطلق عندما كان هذا المجال مهمشاً وثانوياً في سلّم الاعتبارات في المنطقة. وقد نجح في إتاحة فرص التعلم والتعليم وإقامة النشاطات الثقافية في كل أرجاء البلاد، بما فيها الجولان المحتل، وعزز حضور الثقافة الفلسطينية والعربية إقليمياً ودولياً، ولا سيما بعد تأسيس قاعات «الموزاييك» في لندن ودعمه لـ«مهرجان شباك» هناك، ومشروع «صلات» من خلال الفنون بين أوساط المبدعين الشباب في مخيمات اللاجئين في لبنان.
كل ذلك لا يلغي الأخطاء التي لا بد من أننا اقترفناها خلال هذه السنين. نحن نقوم بالمراجعات والتساؤلات والنقد الذاتي المتواصل لتحسين الأداء، بما في ذلك طرح الأسئلة الصعبة، وخصوصاً أننا لا نريد أن «نرشّ على الموت سكر» كما يقول المثل الشعبي فنصبح كأننا نعيش في دائرة مفرغة لا علاقة لها بالواقع السياسي والاجتماعي والبيئي والاقتصادي المتردّي حولنا.

■ هل تعتقد أن هناك فجوة بين المجتمع الفلسطيني والإنتاج الثقافي، وما السبب برأيك؟
بصراحة، المثقف يحتاج إلى خلق الفجوات مع محيطه ومجتمعه. أو بالأحرى، لا بد من مواجهات بين الطبقة المثقفة ومجتمعها، فهي إذا كانت قديرة وجريئة، ستتحدى مجتمعها ولا سيما السلطات المتربصة داخله، وتطرح عليه أسئلة قد يرفضها وقد يرد عليها بالنقد الشديد أو بالتهم أو حتى بالعنف. ما ألاحظه أننا كقطاع ثقافي عربي، ربما اعتزلنا في بعض الحالات لعب دور مماثل، هذا ما قصدته عندما عبرت عن غياب الجرأة في تناول بعض الأعمال الفنية في مسابقة الفنان الشاب لمواضيعها.

■ ما رأيك بأداء المؤسسات الأهلية في فلسطين، وما المطلوب منها في هذه المرحلة؟
لا يمكنني أن أقوم بتقويم مماثل ضمن مقابلة صحافية، ولكن لا شك في أن فلسطين يجب أن تفخر بإرث العمل الأهلي الذي نتج من غياب مؤسسات الدولة طوال سنوات الاحتلال، حتى ولو شاب هذا الإرث بعض حالات التسيب أو الاستغلال أو الفساد. من جهة أخرى، إن للمجتمع العربي الفلسطيني الحق في إقامة مشاريعه ومؤسساته الأهلية، ولو تباين مستوى الأداء في ما بينها. المهم بالنسبة إليّ أن تتمتع تلك المؤسسات بالاستقلالية، وأن تحكمها قوانين ديموقراطية تسمح لها بلعب دور «القطاع الثالث» الذي يسدّ الثغَر التي تغضّ السياسات الحكومية عنها الاهتمام، فيقوم المجتمع بخلق مبادرات بديلة. هذا من المؤكد ما حصل ويحصل في قطاع الثقافة أيضاً.

■ هناك من يقول إنّ عمل تلك المؤسسات، وخصوصاً الثقافية، خلَقَ طبقة اجتماعية محدودة هي الوحيدة المنتجة والمستهلكة للحراك والأنشطة الثقافية، في وقت تتقلص فيه المساواة الاجتماعية في الوصول إلى الثقافة وتزداد فيه الفجوة بين الشارع والحراك الثقافي، هل هذا صحيح؟
الإحصاءات تدل على ازدياد الفروقات الاقتصادية والاجتماعية في فلسطين، ولا بد من أن ينعكس ذلك في جميع القطاعات، بما فيها المؤسسات الثقافية. وفي كل أرجاء العالم، ستجد المثقف الرسمي أو المقرب من السلطة كما ستجد المثقف المستقل أو النقدي أو التقدمي، وهذا ينطبق على المؤسسات أيضاً. المهم أن نتمكن من خلق الحوار والحراك المجتمعي لتغيير السياسات العامة والثقافية من أجل ثقافة حيوية، وتعليم ديموقراطي مجاني مستقل عن الحزبية، وفرص إبداع في متناول الجميع منذ الطفولة حتى الشيخوخة. نحن نعمل على هذه الأسس وقد ننجح في بعض الأحيان ونفشل في غيرها، كما بالنسبة إلى المؤسسات الأخرى. إنها ديناميكية وجدلية مستمرة، لا يمكن أن تتوقف إلا إذا طغت الفاشية على المجتمع وأجبرتنا على الصمت. أما إذا أردنا أن نقيس مدى وصول الثقافة إلى المجتمع، فأعتقد أن الادعاء قد يكون خاطئاً بمعنى أن النشاط الثقافي اللاحكومي منتشر على نطاق جغرافي وطبقي أوسع بكثير مما سبق. «مهرجان قلنديا 3»، أو «مهرجان العلوم»، ومثلهما نشاطات كثيرة، دليل على ذلك. في المجمل، فإن معظم الفعاليات الثقافية التي تقدمها المؤسسات متاحة للجمهور إما بشكل مجاني أو برسوم رمزية، وهذا ما يجعلها في متناول الأغلبية إن لم يكن الجميع.

■ من ناحية أخرى، وبالرغم من المحاولات المتواضعة لخروج الفعاليات الثقافية خارج رام الله في السنوات الأخيرة؛ إلا أن العديد من المدن والقرى الفلسطينية تتعرض لحرمان ثقافي فادح، مقابل تجاهل كبير من الطرف الحكومي والأهلي، ما تعليقك على ذلك؟
أظن أن هذا ادعاء مجحف، بالنسبة إلى القطاع الأهلي على الأقل. ثم لا تنسَ أن المجتمعات بحاجة إلى المدن المركزية الحيوية كما هي بحاجة إلى قراها ومدنها الصغيرة. على سبيل المثال، ما كانت السينما لتولد لولا المدينة المركزية الغنية. أعود هنا إلى ماركس والفكر الجدلي الذي يتيح لنا فهم ديناميكية تطور الأحداث واستثمارها لمصلحة الحرية والعدالة والازدهار. إذا وقفنا فقط أمام ثنائيات جامدة مثل المدينة/ القرية، الطبقة الوسطى/ الطبقة العاملة ولم نر احتمالات تطورها واندماجها، فستغيب عنا حينئذ جميع التناقضات وإمكانات التغيير، التي هي في صلب عملية المراقبة والتحليل، في الأدب الروائي مثلاً وفي الإبداع بشكل عام، ولمَ لا، في صلب الفكر الثوري التقدمي؟ هذا لا يلغي أننا كمؤسسة حريصون جداً على الامتداد الجغرافي واللامركزية في توزيع مواردنا وحتى في أسلوب اتخاذ القرارات. عدد أعضاء «مركز الطفل» في مدينة غزة 11000، لكن خدمته الممتدة تصل إلى أكثر من 3500 طفل في أرجاء القطاع كافة. «مركز المعلمين» في قرية نعلين قرب جدار الفصل العنصري ومثله العديد من منتديات المعلمين في الناصرة والخليل ودورا وجنين وغزة وغيرها، تشكل امتداداً أساسياً لعمل برنامج البحث والتطوير التربوي. أما النشاطات التي يدعمها أو ينظمها «برنامج الثقافة والفنون»، فتمتد من الأغوار إلى هضبة الجولان، فحيفا والقدس وبيروت، عدا عن لندن والعديد من المدن حول العالم.

■ هناك من يشير إلى خلل بنيوي عميق في عمل المؤسسات الأهلية، ينطلق من السنوات الأولى لـ«اتفاقية أوسلو» وما تبعها من تفريخ لمؤسسات أهلية كثيرة اشتغلت بدون استراتيجيات وطنية وبدون أي أساس لدولة مدنية ذات سيادة، ما رأيك بهذا الطرح؟
ربما، ولكن كيف نعمل ضمن استراتيجيات وطنية والمجتمع منقسم على نفسه وقابع تحت الاحتلال؟ هذه مسؤولية أكبر بكثير من أن نحمّل وزرها على أكتاف قطاع واحد.

■ بالرغم من النشاط الثقافي، إلا أن فلسطين لا تزال تفتقر إلى سياسة ثقافية واضحة وضاغطة، تكون بمثابة مرجعية، تضع الأطر والتوجهات وتركز على الأولويات الوطنية، ماذا ينقص المشهد كي يحصل ذلك؟
اسمح لي بأن أعترض على لغتك، فهي تشبه لغة الستالينية. لا نريد سياسات ضاغطة ولا أطراً ولا مرجعيات، بل قوانين ديموقراطية تسمح للتعليم والثقافة بأن ينعما بالحرية والاستقلالية التي تؤمّن لهما شروط الإبداع والتحرر. لكني أشاطرك الرأي في منحى أساسي كنت قد أشرت اليه في كلمتي ويتعلق بضرورة تقوية أسس التعليم المهني والحرفي في مجالات الفنون. لقد حان الوقت لتكريس الجهود لإنشاء المؤسسات والبرامج الوطنية التعليمية في الفنون، ابتداءً من الحضانات حتى المستوى الجامعي، على غرار المعهد الوطني للموسيقى.

■ برأيك، كيف يمكن تعزيز الإنتاج الثقافي من ناحية النوعية ومن ناحية ردم الهوّة بينه وبين الشارع والمواطن العادي؟
هذه الازدواجية خطيرة بعض الشيء. الشارع ليس بالأحرى أن يكون «أفضل» من المثقف، أو أجدر بالاهتمام منه. لا تنس أنّ «الشارع» قد يكون مصدراً للعنف واللاعقلانية والفاشية، مثلما بإمكانه أن يكون حاضنة لثقافة شعبية رائعة. ما أشرت إليه في كلمتي هو ضرورة الوعي للغة التي نستعملها كي تكون أكثر تأثيراً على المشاهد والقارئة والمتلقية وأن تخاطب آلامها وهمومها بشكل أكثر جرأة وأقل إبهاماً.

■ في السنوات الأخيرة، شهدنا بعض التجارب الفنية تتجه إلى التمويل الإسرائيلي، في ظل تنصّل السلطة الفلسطينية من دعم أي فنان من الأراضي المحتلة عام 48، وتواضع قيمة المنح من المؤسسات الفلسطينية الأهلية، ألا يدفعكم ذلك إلى التفكير في إنشاء «صندوق للثقافة الفلسطينية» عوضاً عن إفساح المجال لمحاولات أسرلة الفلسطيني الذي يستخدمه الاحتلال لغسل صورته في الخارج؟
نحن لا نعترف بالحدود السياسية في تعاملنا مع الفلسطينيين. منذ البداية، ندعم المعلمين والفنانين والأطفال والشباب، بغضّ النظر عن خلفياتهم أو مكان إقامتهم، بما في ذلك فلسطين المحتلة عام 1948. وهذا الكلام صحيح منذ أن موّل والديّ نشر «ديوان الأرض المحتلة» الذي حرره أحمد الخطيب في دمشق في نهاية الستينيات على ما أذكر، وكان أول «طلة» لشعراء «الداخل» في الوطن العربي. أما ما يفعله الأفراد والمؤسسات (المستفيدة من التمويل الإسرائيلي) فالأمر راجع لضمائرهم، ويجب أن يتحملوا مسؤولية أعمالهم، مع العلم بأني أعارض كل محاولات عزلهم أو مقاطعتهم، وأشجع من لا يتفق معهم أن يعبر عن رأيه بشكل ديموقراطي غير إقصائي. نحن مجتمع مشحون بعدائية غير عقلانية، وأنماط عاطفية في حواراتنا، وعلينا كمثقفين أن نصرّ على حق الفرد بممارسة خياراته السياسية والأخلاقية والدفاع عنها من دون خوف، على أن ننتقدها نحن ونرد عليها من دون تهديد ووعيد. وهذا أحد أسباب تحفّظي على بعض مبادرات «المقاطعة الثقافية»، لأني أرى في بعضها ما يشبه الإقصاء والموعظة أكثر من الحوار الديموقراطي.

■ كيف تنظر إلى الحالة السياسية الراهنة في فلسطين، وأنت مثقف وناشط ابن عائلة خسرت حياتها وأرضها في يافا؟
عائلتي اليافية من البورجوازية الصغيرة التي كانت تملك القليل قبيل عام 1948 وكان جدي أمياً ولم يكن يملك منزل العائلة بل كان يستأجره. ما خسرته عائلتي ككل الفلسطينيين هو حياتهم، كما تفضلت، في ظروف سياسية لم يكن فيها ميزان القوى لمصلحتنا على الإطلاق. وهذا الوضع لا يزال موجوداً اليوم. لكن من جهة أخرى، ها هو الشعب الفلسطيني أشرف على أن يكون الأغلبية السكانية في فلسطين التاريخية رغم كل محاولات تهجيره، وها هو لا يزال ينبض بالحياة. المهم أن نستفيق على أهمية الفكر والوعي والتعليم والحرية لكي ننتج مجتمعاً ليس قادراً على الصمود فحسب، بل على خلق حاضر ومستقبل أفضل لكل شعوب المنطقة، بما فيها «الشعب اليهودي» القاطن في فلسطين. مستقبل قائم على العدالة والمساواة والديموقراطية والحرية، لا على الاستعمار والعنصرية والحروب الأهلية التي استوطنت في المنطقة على يد الحركة الصهيونية والحركات والدول الرجعية والطائفية. لا تنسوا الميثاق الوطني الفلسطيني الرائع، وهو نتاج الحوار الديموقراطي في داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، الذي كان ينادي تماماً من أجل تحقيق مثل هذه الأهداف المثالية.

■ هل كانت الكلمة بمثابة مقدمة مراجعة وإعادة تقويم وربما تغيير في «مؤسسة عبد المحسن القطان»؟
الأمور التي طرحتها في كلمتي تمت مناقشتها طويلاً بما في ذلك في أدبيات المؤسسة وفي ما نشرته أنا عبر السنين. لكن ما هو مؤكد أننا لا نتراجع أمام المصاعب، وإن التزامنا لأهدافنا التزام مطلق. أما الشكل الذي قد يتخذه دعمنا، فإذا لم يتغير ويتجاوب مع تغير الأوضاع التاريخية، فسنكون غير جديرين بالقضية الفلسطينية وشعبها الباسل. أيضاً، إننا مجرد مؤسسة أهلية مدعومة من عائلة تظل محدودة الموارد ويجب أن تخطط وتتصرف على هذا الأساس وأن تولي الأهمية القصوى لنوعية عملها قبل كميته.

■ كانت لك انطلاقة لافتة في عالم السينما مع فيلم «أحلام في الفراغ» (1991)، كما أنتجت قائمة من الأفلام؛ آخرها «زنديق» (2009) الذي أخرجه ميشيل خليفي، قبل أن تنخرط كلياً في التنشيط الثقافي، هل سرقتك الإدارة الثقافية من الإنتاج الفني، وهل هناك عودة سينمائية قريبة؟
ربما. لا أعلم. قررت اعتزال السينما لأسباب عدة؛ منها ما له علاقة بما آل اليه مجال السينما والبيئة الثقافية في فلسطين بعد «أوسلو» وفي العالم بعد هيمنة الليبرالية وانعدام الفكر التقدمي. كانت ولا تزال لديّ أيضاً بكل صراحة شكوك عديدة عن موهبتي، ولكن العنصر الحاسم كان نجاح مؤسسة القطان وما ترتب على هذا النجاح من احتياجات مالية إضافية، ما دفعني إلى الانضمام إلى شركة العائلة في الكويت والمساهمة في إعادة إحيائها من أجل تحقيق مصادر مالية جديدة لدعم المؤسسة وغيرها من المؤسسات الثقافية، مثل «المتحف الفلسطيني» الذي أرأس فريقه منذ أربع سنوات ونيف. أظن أنّ لكل إنسان مصيره، وعليه أن يستثمر في نقاط قوته، ويجهد بشكل واع في مشروعه، من دون خوف أو تردد ومع تحمل مسؤولياته كاملة. هكذا قام والدي ووالدتي بتربيتنا، وأرجو أن أكون قد احترمت هذه المبادئ النبيلة حتى الآن في عملي.