في المشهد العراقي، قبل تحرير الموصل وخلاله، وبعد ذلك بالتأكيد، فإن تحجيم تنظيم «داعش» ودفعه نحو سوريا، تتكامل فيهما الاستراتيجيتان التركية والأميركية. نعم توجد خلافات بين الجانبين، لكن لواشنطن سيطرة على قرارات الحلفاء. في نهاية المطاف، هي الحاكمة للفعل والتكتيكات الموصلة إلى تحقيق الأهداف. ورغم الخلافات، لا تحيد تركيا عن هذه الدائرة وهذا المفهوم، بل ليس بمقدورها الابتعاد عنه.تماماً كما هو الوضع في سوريا، عمدت الولايات المتحدة و«حلفاؤها» إلى تفعيل وجود التنظيمات الإرهابية وضمان استمرارها واستغلالها، لتحقيق مصالحها في كل من العراق وسوريا. استغلال وجود «داعش» وتسهيل مهمة سيطرته ميدانياً، كانا جزءاً من الاستراتيجية الأميركية للبلدين، المرتكزة على الإبقاء على التنظيمات الإرهابية وتهديداتها، بل دفعها قدماً، بالقدر الذي يؤمل معه أن ترضخ بغداد ودمشق للإملاءات، في ما يعرف بالتسويتين السياسيتين في كلا البلدين، مع الفارق بينهما.
التطورات الأخيرة في العراق، وشبه التدخل التركي فيها، وإن حصر حتى الآن بالتهديدات بلا أفعال تقريباً، شبيه إلى حدّ ما، من ناحية الأميركيين، بالاستراتيجية المتّبعة في سوريا. الاختلاف كان ولا يزال في وسيلة الضغط الأميركية المباشرة. ففي الساحة السورية، تستخدم واشنطن الجماعات المسلحة ونفسها وقدراتها العسكرية وتهديداتها المباشرة، للضغط على الدولة وحلفائها، فيما هي في العراق تستخدم الضغط الدبلوماسي غير المعلن، مع حكومة بغداد. أما التهديدات المباشرة، فتتكامل فيها استراتيجيتها مع تركيا، لتستغل تهديدات أنقرة أيضاً، وتدفع قدماً بمصالحها.
مقارنة بسوريا، عمدت واشنطن، لمّا انكسرت الجماعات المسلحة ووصلت الأمور إلى حدّ الحسم معها، مرات عدة، إلى محاولة احتواء اندفاعة الجيش السوري وحلفائه، عبر رسائل أو مفاوضات، أوصلت إلى وقف الهجمات ــ رغم تظهير نجاعتها ــ على الجماعات المسلحة. ولمّا قصر هذا التكتيك عن تحقيق الهدف، وجّهت واشنطن رسائل ردع وتخويف بإشارتها إلى إمكانية شنّ هجمات أميركية مباشرة ضد الجيش السوري لصدّ اندفاعته وحلفائه. رفعت الولايات المتحدة الصوت عالياً، حتى في وجه الوجود الروسي. رغم صمود موسكو ومقابلتها الردع بالردع، فإن ما يحدث حتى الآن في حلب من فرملة الاندفاعة، تحديداً من ناحية روسيا، يشير إلى حضور العامل الأميركي التهديدي في القرارات المتخذة، أو تلك الممكن أن تتخذ حول شرق حلب، ولا يبعد حول ريفها أيضاً.
لكنّ الساحة العراقية تحمل قيوداً تجاه الأميركي، وتصعّب عليه استخدام اللهجة والأسلوب التهديديين المباشرين كما الحال في سوريا؛ ليس بمقدور واشنطن أن تطلق تهديدات ضد بغداد، لكنها تعمد إلى تفعيل الضغوط ما وراء الستار، عبر «قنوات دبلوماسية»، استطاعت معها أن تحقق نتائج كثيرة حتى الآن، ولسوء الحظّ، بعد خضوع طوعي لبغداد، ذات القابلية المرتفعة للخضوع للأميركي. مع ذلك، يُشهد للضغوط الموازية المقابلة، التي فُعّلت أيضاً على بغداد، من الأطراف الداخلية ومن ورائها الضغوط الإقليمية (إيران)، أنها أحبطت أو دفعت إلى إحباط مروحة من الأهداف الأميركية في العراق. كان أهم فعل مضاد للاستراتيجيات الأميركية تشكيل الحشد الشعبي وتثبيته، ودفعه إلى تحقيق إنجازات ميدانية كبيرة جداً. فرغم التصعيب الأميركي ومجاراة بغداد للأميركيين، استطاع الحشد أن يؤمن العاصمة العراقية أمام التهديدات، ويمنع الخطر عن الجنوب العراقي، ويوسّع لاحقاً دائرة الأمان بصورة كبيرة جداً.
الساحة العراقية تحمل قيوداً للأميركي تمنع عليه التهديد المباشر

لم يبقَ أمام الأميركيين، في الساحة العراقية، إلا منطقة الموصل، ذات الخصوصية الطائفية التي تتيح لهم الضغط أكثر على حكومة بغداد، باعتبارها إحدى أهم الرافعات لتحقيق المصالح الأميركية في العراق. المعادلة كانت واضحة جداً: لا استعادة للموصل ما لم تتحقق المصالح الأميركية في اليوم الذي يلي التحرير، ومسبقاً، وهو ما لا يتحقق أو يصعب تحققه مع مشاركة الحشد الشعبي في المعركة على آخر معاقل «داعش» في العراق. لكن الولايات المتحدة وضغوطها ما كانت قادرة على منع الحشد من المشاركة، وكان من شأن ذلك أن يحرمها مبدئياً «قطفاً سياسياً كاملاً» في أعقاب التحرير، وذلك في اليوم الذي يلي اجتثاث «داعش» وطرده بمشاركة «الحشد»، وهو واقع دفع الأميركيين إلى منع التحرير، ومنع بدء المعركة طويلاً.
الصيرورات السياسية في الداخل الأميركي، مع قرب نهاية ولاية الإدارة الحالية وضرورات العملية الانتخابية، كان من شأنها أن تدفع واشنطن إلى «السماح» بانطلاق المعركة على الموصل لاستغلال بدء المعركة ونتائجها لاحقاً. وهي في الوقت نفسه كانت معنية بألا يشارك الحشد الشعبي، بدلالاته الإقليمية والداخلية العراقية، في ما يرتبط بالعملية القتالية نفسها، وأيضاً في الاستثمار السياسي اللاحق ربطاً بالمشاركة. كانت المصلحة الأميركية أن تلاقي واشنطن أنقرة، وأن تتكامل معها. كان من الضروري، ولا يزال، أن تدفع الإدارة الأميركية تركيا، أو تسمح لها، أو تتماشى معها، كي تلعب هي (تركيا) الدور الأميركي التهديدي بما يشبه ما تفعله في الساحة السورية، وبما يخدم الضغط على بغداد لمنع مشاركة «الحشد»، بجانب تسهيل مهمة تحقيق المصالح الأميركية في اليوم الذي يلي «داعش». اللافت أن الأميركيين، أصحاب المصلحة المباشرة في التهديدات التركية، عمدوا إلى لعب دور الوسيط، الذي يتيح لهم تثميراً أكبر للتهديدات التركية عبر القنوات الدبلوماسية، وذلك في تليين وإخضاع القرارات الصادرة عن بغداد.
النتيجة المحققة إلى الآن، بعد خضوع بغداد للتهديدات، ورغم الصورة التي حاولت أن تظهر بها كمتصدّ للأتراك، هي التماشي إلى حدّ الخضوع، بمنع الحشد الشعبي من المشاركة في استرداد الموصل. لكن هذا المشهد لا يزال حتى الآن معقّداً؛ فالضغوط المقابلة، الداخلية والإقليمية، والتنوع الديمغرافي الطائفي في العراق، أتاحت لـ«الحشد» أن يتحرك للمشاركة في المعركة باتجاه تلعفر، الشطر الثاني من المعركة على «داعش»، الذي لا يقل أهمية عن الشطر الأول في دلالاته واستثماراته السياسية، بما يرتبط باليوم الذي يلي سقوط التنظيم.
بكلمات أخرى، حاول رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، معالجة التحديات بما لا يتعارض، بل بما يتوافق، مع الإرادة الأميركية، لكنه في الوقت نفسه محكوم بضغوط مضادة متشكلة من الواقع العراقي وامتداداته الإقليمية، التي تقف متربّصة بالأميركي في الساحة نفسها، وفي ذلك صراع إرادات واستراتيجيات واستراتيجيات مضادة.
لكن، هل هذا هو دور تركيا فحسب؟ بالطبع لا. الشهية التركية مرتفعة جداً في العراق، وهذا هو الحدّ الذي سمحت واشنطن لأنقرة بأن تفعّله تجاه الساحة العراقية حتى الآن، وهو قول وفعل تركيان، أتاحا لواشنطن أن تحقق مصلحتها الابتدائية مع بدء المعركة على الموصل. هل تتحول أقوال أنقرة إلى أفعال كاملة؟ سؤال يرتبط أيضاً بالمصلحة الأميركية، وصيرورات المعارك الدائرة حالياً ضد «داعش»، ونجاح الحشد الشعبي والجهات التي تقف من خلفه، في الداخل العراقي والإقليم، في الوصول عبر بوابة تلعفر إلى النتائج التي أرادت وعملت واشنطن على منع تحققها، أي منع الحشد الشعبي من المشاركة الفعّالة في تحرير الموصل.
بناءً على ذلك، الأمور لا تزال مفتوحة، ولا قطع باتجاه التأكيد أو النفي، في أن الدور التركي سيقتصر على التهديد من دون أفعال، خلال المراحل المقبلة من المعارك الدائرة في العراق.