ليس بسيطاً هذا الواقع اللبناني المعيوش منذ ظهر الاثنين 31 تشرين الأول 2016. كأنه قائم في كون آخر غير الكون الواقع فيه لبنان. أو كأنه من زمن بعيد كل البعد عن زمننا. ساعات قليلة فصلت في المواقف والوقائع والتموضعات والاصطفافات، بين مرحلتين متباعدتين سنين ضوئية. صحيح أن عملية تراكمية كانت قد بدأت منذ فترة غير قليلة. عملية اتسمت بشكل أساسي بسلسلة من التضحيات والمخاطرات، في سبيل التفاهمات والتوافقات. منذ كانون الثاني 2014 كرت السبحة: أن يلتقي ميشال عون بسعد الحريري بعد انقطاع، وأن يتفقا بعد اختلاف وخلاف. ولو لم يستكمل الاتفاق أو يتوج، مسألة شكلت خرقاً لجدار سميك في أزمة خانقة. بعدها أن يلتقي الحريري سليمان فرنجية. ثم أن يتفق عون مع سمير جعجع. وصولاً إلى هذه التركيبة التقاطعية المذهلة التي شكلت التحالف الرئاسي، وصولاً إلى انتخاب الجنرال رئيساً.المهم أن قوة الدفع الإيجابية المنبثقة من تلك اللحظة لا تزال مستمرة. وتبدو مرشحة لأن تكون كافية لتخطي المزيد من العقبات والمطبات والعراقيل والتفاصيل. حتى أن المطلعين على أجواء القصر الرئاسي في أثناء استشارات التكليف، وخصوصاً عند إنجازها ولقاء رئيس الجمهورية برئيسي المجلس والحكومة المكلف، حسبوا أنفسهم في وقت مستقطع من عالم السياسات اللبنانية. كل التفاهم، كل الإيجابية، كل الانفتاح والاستعداد والتجاوب، مع الأقصى من الود على المستوى الشخصي، مما كان متأرجحاً طوال أعوام بين عطبه وندرته.
ما الذي سمح بهذا الانفراج المفاجئ والمستجد؟ أكثر من سبب يعطى للتفسير. البعض يقول إننا كلبنانيين، ومهما تبدلت الأزمنة والحقب، لا نزال "قنصليين" في عظمنا. بمعنى أننا لا نزال نحفظ في وجداننا اللاواعي أسطورة أننا دولة قناصل، ولدت من الخارج ومن الخارج تحكم ويتم التحكم بها. وأن شعرة لا تسقط من رأس لبناني، ما لم تكن قد قطعت من البعيد عن رؤوسنا. وبالتالي، يعتقد أصحاب هذا الرأي، أنه بمجرد تمكن التسوية الرئاسية من الانطلاق، اقتنعت أكثرية واسعة من اللبنانيين، سياسيين وأناساً عاديين، بأن كلمة السر قد صدرت من "العقل العالمي" الحاكم كوكب الأرض. ولذلك لا جدوى من المواجهة والممانعة. وهذا ما يفسر كل "الانضباط" الذي حل وتلا... علماً أنه للأمانة، ثمة مؤشرات واضحة تناقض هذا التفسير. ليس أقلها أن عدداً من "القناصل" ظل حتى اللحظة الأخيرة "يحرتق" على التوافق الرئاسي المتبلور والمنجز داخلياً. وأن بعض اللاعبين الأساسيين ظل معترضاً... بما يسقط نظرية "الوحي الخارجي".
بعض آخر يفضل التشكيك في حقيقة الصورة الوردية المنبثقة من استحقاق 31 تشرين الأول الماضي. يميل إلى الاعتقاد بأن ما يجري الآن، هو نوع من إحناءة الرأس لتمرّ عاصفة الانتخاب وزخم بداية الرئاسة. مع رهانات على عقد كثيرة لا بد أن تظهر لاحقاً. بما يسمح حينذاك بالتقاط الأنفاس واستعادة المبادرة واسترداد ما ضاع من نقاط أو رصيد...
يبقى رأي ثالث قائل بأن فرح الناس، لا بل انفجار احتفالية نصرهم على المحنة والأزمة والفراغ، هو ما فرض هذا التتابع من التفاؤل. ذلك أنه جعل المسؤولين، كل المسؤولين، والسياسيين في غالبيتهم الساحقة، أمام مشهد هذا الإدراك المزدوج: أولاً إدراك حجم المخاطر المهلكة المحيقة ببلدنا فيما لو استمر غارقاً في مستنقع الشغور. وثانياً إدراك حجم التوق الشعبي إلى خلاص، إلى حياة، إلى حل ما، فكيف إذا كان ما أعطي للناس هو الحل؟!
كل الرهانات أن يكون التفسير الأخير هو الصحيح. بما يشكل رافعة ودافعاً لفرصة إنقاذ على الأقل...
تبقى ملاحظة شخصية، أنها المرة الثانية التي "يخطفني" هذا الجبل ــ كما سماه السيد أمس ــ من هذا المكان. "خطف" طوعي إرادي، بمزيج من الشغف بقضيته وكلامه، وحسرة على شغفي بالكلمة. مرتان تفصل بينهما للمفارقة الغريبة، عشرة أعوام بالتمام والكمال. المرة الأولى كانت في نهاية تشرين الأول 2006. يوم دخلت مكتب جوزف سماحة، طالباً موافقته على إذن التخلي عن مسؤولياتي في جريدة "الأخبار"، للتفرغ لتأسيس تلفزيون الجنرال. يومها، بابتسامته المعروفة الساحرة، كان جواب سماحة القاطع بهدوئه: الأولوية الآن لمعركة ميشال عون رئيساً. "شرط إنو تضلك تكتب". بعد عشرة أعوام لم ينقصها يوم، صار عون رئيساً. وصار موعدي مع "الاختطاف" الثاني. أن أكون مع الرئيس، فألملم حروفي عن هذه الزاوية، وأرشف حبر القلب عن هذه الصفحة، وأسكت عن "الكلام في السياسة"، مؤدياً تحية السلام للرئاسة...
شكراً جوزف، لقد نفذت المهمة. شكراً إبراهيم، أنك رفيق الكلمة والهمة. شكراً لكل الزملاء، اسماً اسماً قلماً قلماً وهماً هماً. شكراً للقراء، أو عذراً، أنني أزعجت أو جرحت أو ثرت أو أثرت. وشكراً أخيراً لكلمتي، أنها احتملت دمعتي وأخفت غصتي وحملت ثورتي وحبلت دوماً بفرحتي... مع الوعد أنه ليس الوداع، بل إلى اللقاء، بعد عهد، إنه العهد علي.