يروي أحد الناشطين على وسائط التواصل الاجتماعي أنه أصيب قبل يومين بشيء من صدمة. نوع من الذهول اعتراه، أمام "بوست" نشره أحد الشباب على صفحته ضمن موقع "فايسبوك". هو عبارة عن شريط مصور، طوله 23 ثانية. يصوّر الشاب نفسه فيه وهو يقضي حاجته واقفاً أمام كرسي المرحاض. قبل أن يشدّ دورة المياه بعد إنجازه مهمته. ليركب الشاب بعد ذلك، على خلفية المرحاض، وبواسطة المنتجة، صورة مرشح رئاسي، وليرفق البوست بعبارة نابية تربط بين كرسي الرئاسة وكرسي شريطه المصور... لم تكتمل صدمة الناشط عند هذا الحد. اكتملت حين أدرك أن ناشر الشريط هو حفيد مرجع كبير سابق. وتأكد ذهوله بعد وقت قصير، عندما استدرك أحد ما جسامة الخطوة، فبادر الشاب نفسه إلى إزالة ما صوّر وركّب وما نشر ...ليس ما سبق غير نموذج واحد من آلاف أو عشراتها أو أكثر. وليس غير دليل واحد من ملايين مصورة ومكتوبة وموثقة عن العنف البنيوي الذي بتنا نختزنه. كلنا، من دون استثناء. عنف لفظي. عنف تعبيري. هو انعكاس لعنف تفكيري. أو هو تعويض عن عنف تكفيري صرنا كلنا ضحاياه. حتى الشاب المقصود بالواقعة المذكورة، ضحية. لا مرتكب. كما كل جيله. كما كل أجيالنا. استدخلنا العنف في لاوعينا. استبطناه في أحشائنا. حتى صار حقداً.
أصلاً، وعلماً، ما هو الحقد؟ هو ليس غير غضب العاجز. تماماً كما أن الندم هو حجته. كل إساءة إلينا كأشخاص. كل خطأ. كل خيبة أو نكسة أو نكبة... كل ما يناقض تطلعاتنا وانتظاراتنا وتصورنا لاستحقاقنا وإنصافنا، كل هذا يؤدي إلى جرح في وعينا. الجرح ينتج الألم. الألم تعبيره صرخة. الصرخة غضب... يظل هذا المسار سليماً سوياً، حتى نعجز عن الصراخ. حتى نفقد القدرة على الغضب. عندها نستبطنه. نبلعه. نكبته. يصير في داخلنا المتآكل بفعله وفعل وجوده فينا. فيخترع وعينا ترياق معالجة غضبنا المكتوم. نصير حاقدين. يصير الحقد هذا الأنزيم الذي يسمح لجسدنا بالتعايش مع الغضب المعكوس المكبوت. ويروح يعمل وفق وظيفته الوحيدة الثابتة المعروفة: أن نتمنى الأذى للآخر. الآخر الذي عجزنا عن الصراخ في وجهه. الآخر الذي ضعفنا حيال الغضب عليه. ننكفئ عن مواجهته بالحقد عليه. بتمني إلغائه وأذيته. يمضي الوقت، قبل أن نكتشف أن الحقد لم يأكل غيرنا نحن، ولم يقتل غيرنا نحن ...
من أين جاءنا هذا الحقد كله؟ قد تكون ثمة أسباب كثيرة ومسببات عديدة: عالمنا المستبد. ثورة الاتصالات التي جعلت كل مكبوت مكتوباً وكل خاص عاماً. دخول بيئتنا العامة في مناخ الندرة. وبالتالي خضوعها وخضوعنا جميعاً لقاعدة أن القلة تولد النقار. نظام العولمة الذي أضعف مفهوم القيم لصالح مفهوم السلعة والمصلحة. زمن السرعة حيث الكسب الشريف لا يتوافق مع تسارع الثروة وجنوحها صوب غير المشروع... لكن أيضاً، هناك سبب آخر، هو نظامنا السياسي الذي يقصينا عن حقنا واستحقاقنا. نظامنا المغلق المقفل الذي يمنع تجديد نخبنا ويحكم على أكثرياتنا لحظة الولادة أحياناً، بمن نكون وما نكون. بحسب إخراج القيد العائلي ودفاتر التوفير وأرقام القيد والحسابات المصرفية. والذي يجعل منا بيادق على رقعة بلونين اثنين: زعماء ورعايا، إقطاعيون وأقنان، منذ وعينا وحتى موتنا. لا نكسر تلك الثنائية إلا بالعنف والدم. نظامنا الطوائفي القائم على جدلية الخوف والتخويف... كلها أسباب للأذى اللاحق بنا، متزاوجاً مع العجز الساكن فينا، وبالتالي حقدنا المتوالد سرطانياً في داخلياتنا...
يوم الاثنين المقبل، قد نكون على موعد مع لحظة أخرى. مع فرصة ممكنة. بمعزل عن أولويات النظام ومقتضيات الدولة وحاجات السلطة والحكم. وبعيداً عن عناوين الإصلاح وضرورات حياتنا الفردية المادية، ومطالب الماء والكهرباء وحتى آخر اللائحة اللازمة المعزوفة. ثمة فرصة لأن نتصالح مع أنفسنا. أن نستلحق ما مُنعنا عنه بعد نهاية الحرب العسكرية سنة 1990. وأن نستدرك ما أضعناه بعد نهاية الحرب السياسية والسيادية سنة 2005. يوم الاثنين المقبل أمامنا فرصة كي نكون نحن. كما نحن. بلا مباخر نرفعها للمستقوي ولا خناجر نشحذها للمستضعف. فرصة لأن نختلف من دون خلاف. ولا التفاف. وأن نتساوى من دون صهر ولا قهر. أن يكون زعيم أو سياسي متمايزاً عن مرشح أو منتخب، بلا عداء ولا استعداء. وأن ينتخب رئيس بلا مظاهر زحفطة ولا وجوه بلطجة. أن يطلع رئيس يشكر الذين انتخبوه لأنهم حفظوا الجمهورية. وأن يشكر أكثر الذين لم ينتخبوه لأنهم صانوا الديمقراطية. أن نكون بشراً ومواطنين بكل بساطة وجوهر المفهومين. أمامنا فرصة لأن نكون من هذا العصر، لا من جاهليات بائدة، ولا من قرون وسطى حاقدة. أن نربح من دون أن نهزم. وأن نخسر من دون أن نُلغى. أن نعارض فلا نصير خونة. وأن نوالي من دون أن نكون آلهة...
يوم الاثنين المقبل، ثمة فرصة لأن نستحق وطناً، فلنستعد لاقتناصها، كما لم نفعل من قبل.