مدينة الهرمل تستغيث. إن تزرها، هذه الأيّام، تسمع أنينها. جارة العاصي في خطر. جميلُ تُراث العشائر يجري الآن اختطافه، بما يبعث على الذعر، أكثر مِن أيّ زمن مضى. تفاقمت "لغة الدم". كلّ "عصابة" تتربّص "ثأراً" بأخرى... إلا ما ندَر. مَن لا علاقة له يذهب "فرق عملة". كثيرون مِن أبناء المدينة خائفون، يأكلهم القلق، القلق على مجتمعهم ومستقبل أطفالهم. ليس عابراً أن تُجمِع شهادات أشخاص، مِن جهات الهرمل الأربع، على أن "كلّ شيء قدّ يَنهار... فوق رؤوس الجميع". كأن تلك البقعة مِن لبنان، القابعة أبداً على هامش الخريطة، لم يكفها "الحرمان" الأزلي، فظلّ أهلها يصبرون، إلى أن باتوا الآن مُهدّدين في أمنهم، في دمائهم. الحلّ مِن داخل العشائر، أو على أيدي "المصلحين" والوجهاء، جُرّب مراراً وتكراراً. لم يَنفع. لا بدّ مِن شيء جديد. المنطقة الموالية لحزب الله، خزّان المقاومة والشهداء، تُناشد اليوم جميع المسؤولين أن يمدّوا لها يد العون، وحزب الله على رأس هؤلاء. ولا يبدو الحزب غافلاً عمّا يجري. سيكون للسيّد حسن نصر الله لقاء "هرملي" شامل قريباً جداً. كثيرون هناك يأملون بداية عهد جديد في التعامل مع المنطقة، بأسرع ما يُمكن، وأولويّتهم وضع حدّ لعصابات "الزعرنة" وتجّار المخدرات، الخارجين على كلّ شيء، وذلك لمرّة أخيرة... مهما كلّف الأمر

الهمّ الذي يشغل بال شكري حمادة، بعد فجيعته بمقتل شقيقه أياد الشهر الماضي، هو إيجاد مدرسة جديدة ينقل إليها أولاده وتكون بعيدة عن "مناطق الخطر". لا يقيم حمادة في منطقة توتر طائفي أو مذهبي، ولا على خط تماس بين جماعتين متناحرتين، وإنما في مدينة الهرمل في أقصى البقاع الشمالي.
المدينة ــــ الواحة وسط طبيعة جرداء تحيط بها من كل جانب لا توحي لزائرها بكل ما يعتمل في صدور ناسها. لكن هدير نهر العاصي، شريان حياة المدينة وجاذب السياح إليها، لا يعلو فوق صوت الشكوى المتصاعدة من الفلتان الذي ترزح تحته الهرمل وأهلها. كل هذا الجمال الطبيعي الساحر لا يعني أن الأمور على ما يرام في المدينة وقرى قضائها. غول العصبية العشائرية عاد ليطل برأسه مجدداً بكل ما فيه من إرث سلبي، وخالياً من المعاني الإيجابية للعشائرية كالنبل والشهامة وإغاثة الملهوف. بالتأكيد، لم تكن المنطقة "جمهورية أفلاطون" سابقاً، لكن ما تفاقم مِن سوء خلال السنوات الأخيرة، وبوتيرة تصاعديّة مخيفة، يدفع بكثيرين مِن الأهالي، والعشائر منهم، لأن يَصرخوا: "أنجدونا".
نواب المنطقة يلتقون أسبوعياً ويصدرون بياناً هو نفسه منذ 15 عاماً عن الإنماء المتوازن ورفع الحرمان

"الحقّ على الدولة"؟ بالتأكيد. ولنشرح هذا أولاً، على ألا يبقى الشمّاعة الوحيدة لكل الموبقات. لطالما "لعبت" السلطة السياسيّة في لبنان بالعشائر البقاعيّة. لم تتعامل معهم مرّة على أنّهم جزء مِن الدولة. منذ الاستقلال، كانوا مجرّد أدوات في السياسة. كثيرون لا يزالون يَذكرون اسم الضابط بطرس عبد الساتر، الذي كان، في منتصف القرن الماضي، يعمل كـ"مستشار للعشائر" بإيعاز مِن رئيس الجمهوريّة آنذاك فؤاد شهاب. عمل عبد الساتر على فض النزاعات والمُصالحات... على الطريقة العشائريّة. يَفعل هذا "رجل الدولة"! سبقه إلى ذلك، بطرق أخرى، الرئيس كميل شمعون. كثيرة هي حكايات "العبث" التي يُمكن أن تسمعها عن تلك الحقبة. دائماً كان الهَمّ: كيف نكسَب أصواتهم في صناديق الاقتراع. هكذا تمّت شرذمتهم وابتزازهم بإخراج مطلوب من السجن أو بغضّ النظر عن تهريبة أو زراعة ممنوعة. هكذا أصّلت السُلطة/ السُلطات فيهم ما كان يُفترض أن تساعد في إزالته، ولو تدريجيّاً. رغم ذلك، هناك من "يترحّم" على تلك الأيام. اليوم، فرّخت العشائر أفخاذاً وأجباباً. كبرت وتضخّمت، ولم يعد "شيخ العشيرة"، كما في السابق، يمون على كل أبنائها. وخرج منها ــــ بسبب الفقر والحرمان والإهمال ــــ عصابات أشبه بـ"المافيا" المُنظّمة تتغطّى بأسوأ ما في العصبية ولا تتحلّى بالنبل العشائري... وكلّ ذلك يحصل تحت ستار العشائر. هل هذا يعني أن العشائر بريئة؟ أبداً. سيأتي الحديث.
 
سباق تسلّح

لقد تحوّلت الهرمل إلى "فدراليّات عشائريّة". هذا ما يقطع به شكري حمادة، ابن المنطقة، والشاهد على تحوّلاتها التاريخيّة. بحدّة يحذّر: "إذا لم يُسارع المعنيّون إلى التدخّل، فإن هذا المجتمع سيَنهار، ولن ينجو منه أحد. ولن تعود هذه المنطقة صالحة للسكن". تسمع في الهرمل هذه الأيّام، على ألسنة وجهاء، أن أكثر العشائر "دخلت في سباق تسلّح. هذا يحصل الآن على قدم وساق. قد يُصبح لكلّ عشيرة جيشها الخاص... هنا لا وجود للدولة". عندما تتكرّر هذه الجُمَل، على أكثر مِن لسان، وفي أكثر مِن حي، فإنّها إشارة إلى أنّ الأمر يشي بشيء مِن الواقع. نبرة الصوت جديّة. كأنّ المنطقة في انتظار كارثة. بسهولة يُمكن ملاحظة الوجوم والقلق عند تنقّلك في شوارع المدينة ... فضلاً عن جرودها. أحد كبار السنّ يقول: "يوجد دم الآن بين أكثر العشائر، وقد نشهد موجات قويّة مِن عمليات الثأر، فخلال ستّة أشهر وقعت سبع جرائم قتل، أما في الجرود فلا أحد يُحصي. هذا أمر مُستجدّ داخل المدينة".

أين الدولة؟

جواباً عن هذا السؤال الأبدي: في الشكل، تبدو الدولة "حاضرة جداً" في الهرمل. حاجز الجيش على مدخل المدينة، وثكنته في داخلها، والسرايا ومخفر الدرك وعناصر السير، كلها تشير الى هذا الحضور. لكنها تغيب عن السمع والبصر ما إن يندلع اشتباك بين أبناء عشيرتين متناحرتين ولا تعاود "الظهور" إلا بعد أن تفعل الاتصالات فعلها في وقف الاشتباك وسحب المشتبكين، قبل أن يحضر عناصر الجيش ومخابراته "لزوم الهيبة الأمنية". لدى وقوع حادث سير، يحضر عناصر مخفر الدرك لـ"التوسط"، وخصوصاً إذا كان أحد طرفي الحادث "مسنوداً". السؤال عن رخصة السوق وأوراق السيارة وغيرهما ترف لا يمارسه هؤلاء إلا إذا تأكدوا من أن المعنيين غير "مسنودين". عناصر السير لا يحرّرون، هنا، مخالفات إلا بسائقي الدراجات السوريين. أما القاصرون الذين يقودون سياراتهم بسرعة جنونية أو أصحاب السيارات "المفيّمة" من دون لوحات فذنوبهم مغفورة سلفاً! يبدو "التراضي"، هنا، وكأنه الكلمة السحرية: أمن بالتراضي، دهم بالتراضي، توقيف بالتراضي... وحتى تلف ممنوعات بالتراضي!
رغم ذلك، لا أحد يلوم العناصر الأمنيين. "هؤلاء مساكين"، يقول طبيب من أبناء المدينة. يضيف: "كيف يمكن أن نتوقع منهم أكثر من ذلك إذا كان ضباطهم لا يتعزّلون عن الولائم التي يقيمها لهم وجهاء العائلات والعشائر؟ هل تعلم أن منطقتنا، على عكس ما يُعتقد، أصبحت الخدمة فيها حلماً لبعض الضباط لا عقوبة؟ تكفي سنتان من الخدمة هنا حتى يثري الضابط فجأة... وفهمك كفاية"!
العام الماضي، "تجرأت" دورية لمخابرات الجيش على المرور في حي محسوب على إحدى العشائر. لم يعجب ذلك أحد المطلوبين، فانهمر الرصاص على عناصر الدورية، ما أدى الى جرح اثنين؛ أصيب أحدهما بعطب دائم. في النتيجة، المطلوب لا يزال في بيته والمنطقة محظور دخول عناصر الأمن إليها!
لا يعني ذلك أن الهرمل هي "تكساس" كما نراها في أفلام الغرب الأميركي، ولا أن مطلوبيها "سوبرمانات" لا يمكن السيطرة عليهم. كل المطلوب للخروج من هذا الوضع هو "القرار"، بحسب أحد أبناء البلدة الذي يشير الى أنه، في الثمانينيات والتسعينيات، "كان عنصر واحد من المخابرات السورية على حاجز في وسط البلدة كفيل بحفظ الأمن".
 
الناس في الهرمل عاتبون على حزب الله. وهو عتب كبير جداً على قدر المحبة الكبيرة جداً

... وأين حزب الله؟

اختراق لائحة حزب الله في الهرمل، في الانتخابات البلدية الأخيرة، لم يكن تفصيلاً عابراً. فهذه المدينة، التي لطالما التزمت "التكليف الشرعي"، تفخر بأن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله هو من خلع عليها لقب مدينة الشهداء، إذ قدّمت العشرات منهم على الحدود الجنوبية في وجه العدو الإسرائيلي، وعشرات آخرين ضد التنظيمات الإرهابية. صحيح أنّ من خرق اللائحة كان حزبياً ترشّح منفرداً، إلا أنّ الرسالة كانت واضحة: "الناس ملّوا. هم كانوا ولا يزالون وسيبقون مع المقاومة، وهي عزّهم وفخرهم. لكنهم غير راضين عن واقعهم، لا الأمني ولا التنموي ولا الاقتصادي، ولا على أداء وزرائهم ونوابهم وبلدياتهم"، بحسب ما يؤكّد أحد أبناء المدينة. وهذا ليس عاديّاً في الهرمل، وفي البقاع عموماً، حيث "خزّان المقاومة". يسأل الطبيب نفسه: "هل يعقل أن المجلس البلدي السابق الذي أثبت فشلاً ذريعاً عاد هو نفسه، برئيسه وأعضائه، ليُنتخب لولاية ثانية؟ هذا كان محبطاً جداً للناس الذين لم يرغبوا في خذلان المقاومة، لكنهم عبّروا خفيفاً عن الضيق الذي يعتمل في نفوسهم". ويضيف: "كل الهرمل بيئة حاضنة للمقاومة. ما الذي كان يمنع انتقاء أصحاب اختصاص ولو بعيداً عن الالتزام الحزبي بدلاً من إعادة إنتاج الوجوه نفسها؟".
"هل تصدق أن أقرب مركز لتعاونية موظفي الدولة هو في بعلبك التي تبعد 60 كيلومتراً؟ هذا في مدينة يشكّل الموظفون شريحة كبيرة من ناسها"، يسأل أستاذ المدرسة الثانوي. ويعدّد: "سجّل عندك: الميكانيك والضمان والجامعات الرسمية والخاصة وغيرها الكثير كلها ما بين زحلة وبعلبك. ليس في مدينتنا وقضائها، بعدد السكان الذي يتجاوز الثمانين ألفاً، موظف واحد من الفئة الأولى. الضباط من أبناء المنطقة، في مختلف الأجهزة الأمنية، قد لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين".
ماذا عن الوزراء والنواب؟ يرد ساخراً: "يلتقون أسبوعياً تحت اسم نواب بعلبك ـــ الهرمل، ويصدرون بياناً هو نفسه منذ 15 عاماً، عن الإنماء المتوازن ورفع الحرمان". ويضيف: "النواب عندنا نواب عزاوات. يأتون، يشربون قهوتهم، ويغادرون. وفي المناسبات، يعتلون المنابر ويلقون خطباً سياسيّة لا نحتاجها. نحن مع المقاومة حتى النهاية وهم يعرفون ذلك. لا نُريد خطباً سياسيّة وتعبويّة ومواعظ، بل نُريد خدمات، نُريد الأمن والأمان، نُريد رفع الغطاء عن تجّار المخدرات والقتلة الذين، للأسف، يَنال بعضهم مساعدة أمام القضاء مِن بعض هؤلاء تحت عنوان حجب الدم".
أحد أبناء العشائر، ممن ينبذون العشائريّة، يتحدّث عن "شبكة مصالح وسمسرات واقتسام مشاريع عامة وتلزيمات خاصة ومحسوبيات عائلية وعشائرية. على القيادة العليا أن تُدرك أن هذا يَحصل على الأرض. ولدينا الكثير مِن المعطيات".
يكاد لا يخلو منزل أو محل تجاري أو شارع في المدينة من صورة للسيد نصرالله. للرجل، هنا، محبة خاصة منبعها أن الهرمل هي منشأ البدايات الأولى لحزب الله، ولعلم أهلها أن لمدينتهم "معزّة" خاصة في قلبه. لا بل إن كثيرين مقتنعون بأن السيد، الجنوبي، متأثر بمنطقتهم حتى في بعض المفردات التي يستخدمها في كلامه. رغم ذلك، الناس، هنا، عاتبون على حزب الله. وهو عتب كبير جداً، على قدر المحبة الكبيرة جداً. "جوّهنا الله عليك يا سيد. عينك على الهرمل"، يقول أحدهم مستحلفاً الأمين العام للحزب.




لقاء الجُرد

في الجرود الفاصلة بين محافظتي الشمال والبقاع، بين عكّار والهرمل تحديداً، حيث أكثر الأماكن عزلة وجمالاً وسحراً في لبنان، تقيم عشيرة آل جعفر. في السابع عشر مِن الشهر الجاري، غصّت الباحة الواسعة لمنزل أبو علي، ياسين حمد جعفر، زعيم "الجعافرة"، بوفود مِن مختلف العشائر البقاعيّة. جاؤوا بالمئات. دعاهم إلى وليمة هائلة، بحسب الأصول، للتشاور في ما آلت إليه أحوالهم أخيراً. لم تزل القرون تُبدّل في سلوكيّات العشائر العربيّة، وتفني بعض أعرافها، إلا أنّ "الوازرة" لا تزال في كثير مِن الأحيان تزر وزر أخرى. كثيرون مِن الحاضرين هنا، مِمن لبّوا الدعوة، ضاقوا ذرعاً... بأنفسهم. يدعون الدولة وحزب الله وحركة أمل إلى "إنقاذهم" مما هم فيه. مَن يسمعهم، لأوّل مرّة، ربما يأخذ كلّ مداخلاتهم على محمل الجدّ. يُحبطك أحد أبناء المنطقة عندما يقول: "دائماً يعقدون هذه اللقاءات، يُرددون الشكوى نفسها، فيما هم أنفسهم لا يُبادرون إلى تسليم القاتل لو كان مِنهم. بعضهم صادق بلا شك، ولكن، عموماً، هذه اللقاءات لم تعد تنفع".
بعد الغداء، يدخل الجميع إلى الديوانيّة. "أرجوكم، بالله عليكم، لم نَعد نُريد توصيفاً للواقع. الواقع نعرفه جيّداً. نُريد آليات عمل، الآن، للخروج مِن واقعنا... لقد تعبنا وما عدنا نحتمل". هزّ الحاضرون رؤوسهم، موافقة، مِن غير أن يُعقّبوا. أنهى مُخلص أمهز "صرخته" هذه وعاد إلى كرسيّه. سيقف الآن أكرم زعيتر، ليدلي بـ"صرخة" مشابهة، قائلاً: "المُشكلة هي في عدم رفع الغطاء عن المجرمين مِن قبل عشائرهم، أولادنا يضيعون منّا، نُريد مِن القيادات الحزبيّة ألا تتساهل مع هؤلاء، وخاصّة تجّار المُخدّرات. كفانا تذرّعاً بأننا نعيش في منطقة محرومة، المنطقة هي كذلك فعلاً، ولكن ليس هذا سبب ما وصلنا إليه... أتمنّى على سماحة الشيخ أن يوصل صوتنا". حرّك رئيس الهيئة الشرعيّة في حزب الله، الشيخ محمد يزبك، رأسه موافقاً. كذلك فعل ياسين جعفر، الجالس إلى يمين الشيخ، وإلى يمينه كاهن رعيّة بلدة القاع إليان نصرالله. عموماً، سيكون مِن المفيد أن تتزايد هذه الصرخات مِن داخل العشائر نفسها، لتكون غطاء، أو عاملاً مساعداً، في أيّ "عمليّة جراحيّة" لوضع حد لظاهرة "حُكم العصابات".


 



ابريق "مذكرات التوقيف"

خلال العقود الأخيرة، أصبحت كلمة بقاع مرادفة لـ"الممنوعات" ولمجموعة كبيرة مِن المطلوبين للقضاء بمذكرات توقيف. يُقال إنّ عدد هذه المذكرات يبلغ نحو 40 ألف مذكرة. بعضها يصعب التراجع عنه، كونها في قضايا قتل وجرائم كبرى، لكنّ هناك عدداً كبيراً مِنها، بل ربما العدد الأكبر، هي قضايا تافهة ولا تستحق أن تحوّل المطلوب بها إلى "مجرم" بين الناس، وبالتالي تشجعه لأن يُصبح "طافراً" في الجرود. نوّاب المنطقة لطالما تحدثوا عن الأمر، لكن مِن غير أن يفلحوا في تحويل القضية إلى قانون عفو، ولو جزئي، يَمرّ عبر مجلس النواب. أصبحت كقصة "ابريق الزيت". الكلّ يعرف أنّه لو حوّل هذا الملف إلى "قضيّة" لأمكن إنجازه. ألا تستحق المسألة أن تتحوّل إلى قضيّة وطنيّة؟ لم يُظهروا جديّة كافية هنا. في الواقع، هذا الملف الذي تتراكم فيه المذكّرات منذ ما بعد الحرب الأهليّة، يوفّر حجّة قويّة لخطاب المظلوميّة، سواء مِن المظلوم، والذي يُريد فعلاً العودة إلى المجتمع وممارسة حياته بشكل طبيعي، أو مِن ذاك الذي أدمن "الطفر" في الجرود وأصبح أسلوب حياة عنده. المُهم، ستسمع كثيراً بين الناس في البقاع مَن يقول إن "الدولة عفت عن اللي بيسوى واللي ما بيسوى، وعن مجرمي حرب، فليش ما بينعمل عفو وبتم إسقاط مذكرات التوقيف ومنفتح صفحة جديدة؟". مَن يُجيب؟
 




أين "البوليس"؟

كم يبدو ساخراً أن يَطلب المرء "دولة البوليس" بنفسه... فلا يجدها. يضحك أحدهم على العبارة المملّة حول "نقص العديد والآليات" في مركز فصيلة قوى الأمن الداخلي. تتسع ضحكته أكثر وهو يشير الى طبيعة "العديد" الموجود. "الواسطة" في المناقلات تجعل عناصر الدرك، وعناصر مختلف الأجهزة الأمنيّة، مَن أبناء المنطقة نفسها، ومِن أبناء العشائر نفسها. هذا عكس العُرف العالمي. كلّ شيء هنا يحصل "بالعكس". كأنّ السلطات العليا تُريد أن تدمّر هذه المنطقة بأيّ طريقة. كيف يمكن أن تطلب من عسكري مِن آل الحاج حسن، أو ناصر الدين أو علو أو دندش أو جعفر... مِنه أن يوقف "أولاد عمومته" أو ابن عشيرة أخرى عندما يَضبطهم بجرم ما؟ من يفعلها سيكون فدائيّاً، لأن "الثأر" سيطال عائلته لا "دولته". بالمناسبة، هذه جريمة يُشارك فيها الجميع، أصحاب "الواسطات" مِن نواب ووزراء وضبّاط ونافذين، وصولاً إلى الساكتين عن هذه المهزلة.


 


أثر الأزمة السوريّة

منذ بداية الأزمة السوريّة، قبل نحو خمس سنوات، قويت شوكة بعض المتفلّتين مِن أبناء العشائر. استفادوا مِن تسيّب الأمن عند الحدود بين لبنان وسوريا. زاد نشاطهم، وعملهم في الممنوع مع عصابات سوريّة أخرى، فترافق ذلك مع عنجهيّة وبلطجة في تعاملهم مع الناس. تحوّل بعضهم إلى زعماء عشائر جدد داخل عشائرهم أو على هامشها. يقال إن بعض هؤلاء خطفوا أسماء عشائرهم بعدما أصبحوا هم في الواجهة. في نهاية الأمر، ليس "شيخ العشيرة" سوى مَن يَملك القوّة. سواء ألبسوه "العباءة" (تقليد تنصيب الشيخ الجديد) أو لم يفعلوا. لا سُلطة بلا قوّة. أسباب أخرى، بحسب بعض أبناء المنطقة، ساهمت في تزايد نشاط هذه العصابات الإجراميّة، مِنها "تساهل حزب الله معها، رغم قوته على الحدود، نتيجة حرصه على عدم التصادم معها، وذلك بسبب أولويّات المعركة في سوريا والحسابات المعقدة". يذكرون كيف أن الحزب، في تسعينيات القرن الماضي، نجح في لجم هذه العصابات المتدثرة بلباس العشائر إلى حدّ بعيد، بعدما أظهر لهم استعداده للتعامل معهم بقسوة. هم يفهمون جيّداً منطق القوّة. يحترمونه بشكل مِن الأشكال. لهذا تجد اليوم مَن يَطلب، وخاصة ممن عايش تلك المرحلة، أن يعود الحزب "ويضرب بيد مِن حديد، وليكن ذلك عبر الدولة، عبر الجيش والأجهزة الأمنيّة. لا يُطلب مِنه سوى نبرة عالية، مع رفع الغطاء كاملاً، فعلاً لا قولاً، عندها يُطلب مِن استخبارات الجيش مثلاً اصطياد رؤوس العصابات الكبيرة، كما رأيناها تفعل في مناطق أخرى، علماً بأن هؤلاء الرؤوس لا يزيد عددهم على عشرة أشخاص. بتوقيفهم وسجنهم، شرط عدم مساعدتهم لاحقاً للخروج السريع مِن السجن، بفعل الوساطات السياسيّة... عندها سيعرفون أن اللعبة انتهت".
قد يستغرب البعض ألا يكون حزب الله، رغم هالته الدينيّة، قادراً على بسط نفوذه المعنوي التام بين العشائر. لكن مَن يعرف التكوين الثقافي لتلك العشائر، وتجاربهم السابقة مع الأحزاب السياسيّة، يسهل عليه فهم المسألة. الدين ليس هو الرابط الأول عند العشيرة غالباً، ولا حتى الانتماء للطائفة. كلّ الأحزاب تقريباً في المنطقة واجهت هذا الواقع. حصلت في الهرمل حادثة أخيراً، عندما أطلق أحد أبناء العشائر، وهو من حزب الله، النار على سيارة تابعة للحزب نفسه، فقتل أحد ركابها وجرح الباقين. أما السبب، فهو قيام الحزب، كما قيل، بتسهيل توقيف أحد أبنائه المتورّطين في عمليات التهريب عبر الحدود. ما الحلّ لهذه المعضلة؟ الشيخ يزبك كرّر في اللقاء العشائري الأخير المقولة الشهيرة: "الحق على الدولة". في الواقع، لم يعد لهذه العبارة وقعها السابق. باتت أشبه بأسلوب تنصّل. لم تعد مقنعة أن تُقال هكذا "حاف". تكرار الشيء، مهما كان صائباً، مِن غير نتيجة، يجعل الناس يَملّون مِنه. أحد وجهاء العشائر، وهو مِن محبّي حزب الله، قال لـ"الأخبار" على هامش اللقاء الأخير: "نقول دائماً إن البقاع هو خزان المقاومة، ومدينة الهرمل قبل حرب تموز وقبل أحداث سوريا كانت مدينة الشهداء، والآن تضاعف عدد الشهداء مِنها، وبالتالي فهي لا تستحق أن يتحكّم بها تجّار المخدرات والمجرمون والعصابات. ما يحصل هو بمثابة ناقوس خطر للحزب، عليه أن يستيقظ قبل فوات الأوان، فالمقاومة لن تبقى بعيدة عن الأثر الذي سيخلفه تفسّخ المجتمع. بعض العصابات المحسوبة على العشائر، أو المغطاة منها، تتعامل في تجارة المخدرات والسلاح مع الجماعات المسلحة في سوريا. هذا أمر خطير، سيرتد علينا جميعاً إن تُرك". لافت جداً أن تسمع مِن كثيرين في الهرمل، في أكثر مِن مناسبة، مطالبة للحزب بـ"مزيد مِن الجرأة في ضرب المجرمين". هذا مزاج يُمكن أن يؤسّس عليه.