بدأت أعمال الحفر ونقل الرمول في الجزء الجنوبي من شاطئ الرملة البيضاء استعداداً لبناء منتجع سياحي جديد، "إدن باي ريزورت"، على الشاطئ العام الرملي الوحيد المتبقي في بيروت، وسط استنفار الجمعيات المدنية واستياء روّاد الشاطئ الذين يعتبرون الموقع جزءاً من الأملاك العامة البحرية. وأتت هذه الخطوة بعد أن حرر محافظ بيروت العقارات التابعة للـ"الشركة العقارية السياحية ادن روك ش.م.ل." (3689 ــ 3690 ــ 3691 ــ 3692) في حزيران 2016، آخذاً بقول أصحاب العقارات أنّها "عقارات خاصّة لأنّ طبيعتها كانت صخريّة قبل أن تحط الرمول عليها نتيجة توقف الأعمال". واقترن هذا القرار بتوقيع مالكي هذه العقارات الأربعة تعهّداً بعدم بناء أعلى من متر واحد فوق سطح الأرض في العقارين 3691 و3692 (أي ما يسمح به للطوابق السفلية)، فيبقى البناء فوق سطح الأرض محصوراً في الجزء الشمالي للعقار، وذلك بعد إجراء بعض التعديلات على ملف الترخيص.
المستندات تؤكد أن هذه العقارات هي في الواقع شاطئ رملي
واللافت أن هذا المشروع، الذي لا يختلف عن غيره من المشاريع التي قضمت المساحات الواسعة من الأملاك البحرية في العاصمة، كان قد حصل على مرسومين استثنائيين عام 2005 و2013 ينفيان حق المواطنين في الولوج الى الشاطئ من جهة، ويتناقضان مع نظام المنطقة العاشرة والقوانين والمراسيم المتعلّقة بالواجهة البحريّة من جهة أخرى: فالمرسوم 14814/2005 يستثني المشروع من شرط عدم تجاوز البناء 5.5 أمتار فوق مستوى طريق الجناح (نظام المنطقة العاشرة المصدق بالمرسوم 4811/1966)، فيما يرخّص المرسوم 10900/2013 بإشغال قسم من الأملاك العمومية بمساحة 81 متراً مربّعاً من أجل إنشاء ممر سفلي تحت الطريق العام بمساحة 44 متراً مربعاً لإنشاء جسر علوي للمشاة فوق الطريق العام يربط العقارين 3687 و3689 (الشاطئ الرملي)، وهذه ليست أوّل مرّة يستحصل فيها مشروع سياحي على ترخيص يتعارض مع القوانين التي تحمي الأملاك البحرية وتضمن حقوق الناس فيها، فيبدو أن الاستثناء أصبح القاعدة في العاصمة.كثرت التحليلات والنتيجة واحدة: الأملاك البحرية أصبحت عقارات خاصّة والشاطئ العام يستبدل ببناء مؤلّف من 6 طوابق وسفلييّن، لأنّ التعهّد لم يمنع البناء نهائيّاً في الجزء الملاصق للشاطئ؛ فالرملة البيضاء "خاصّة وصخريّة " في هذه النقطة (لذلك رقّنت الاشارات) ولكن "تبيّن وجود طبقة رمليّة" عندما أراد المالك تهيئة الأرض للبناء.
هناك رأي مختلف وله سنده العلمي: فالمستندات تشير الى أن هذه العقارات هي في الواقع شاطئ رملي. وحتّى ولو افترضنا أنها صخريّة، فإنها تبقى أملاكاً عامة بحرية بحسب القرار144/1925 لأن مياه البحر تصل اليها (الخريطة رقم 1).

تحديد الأملاك البحرية العامّة وحمايتها
كيف نشأت هذه العقارات إن كانت تصل اليها المياه؟

يحدّد القرار 144 الصادرعام 1925 الأملاك العامّة البحرية في المادّة الثانية بـ"شاطئ البحر حتى أبعد مسافة يصل اليها الموج في الشتاء وشطوط الرمل والحصى"، وهي "لا تباع ولا تكتسب ملكيّتها بمرور الزمن" (المادّة الأولى). إذاً الشاطئ الرملي بكامله أملاك عامّة، وإن كان يُسمح بإشغاله استثنائيّاً ولكن بشرط أن "تبقى الأملاك العامة البحرية باستعمال العموم ولا يكتسب عليها لمنفعة أحد أي حق يخوّل إقفالها لمصلحة خاصّة"، و"أن لا يشكّل الاستثمار المطلوب عائقاً لوحدة الشاطئ في حال وجود مساحات يتوجّب إبقاؤها مفتوحة للعموم" (المادة الأولى من المرسوم 4810/1966)، فيما يحظّر هذا المرسوم البناء في المنطقة العاشرة من بيروت حتى ولو شملت أملاكاً خاصة. إلا أنّ هذا الحظر ألغي في المرسوم 169/1989 الذي صدر خلال الحرب عن حكومة غير شرعية ولم ينشر في الجريدة الرسميّة، ممّا حثّ جمعيّتي "نحن" و"الخط الأخضر" على تقديم مراجعة لدى مجلس شورى الدولة لإلغاء المرسوم غير الشرعي ومفاعيله على الأملاك البحرية، والحكم بهذه القضيّة كفيل بحماية كافة شاطئ الرملة البيضاء الواقع في المنطقة العاشرة من محاولات الاستثمار المتعاقبة وإلغاء التراخيص الحديثة ووقف كل أعمال البناء.
ولكن، أبعد من عمليّة الترخيص والاستثناء، تعود قضية الرملة البيضاء الى أساس مبدأ خصخصة العام: فكيف ومتى نشأت العقارات الخاصّة على شاطئ عام؟ وكيف نقبل بالمبرّرات حول ملكيّتها إن كانت لا تكتسب بمرور الزمن؟

شاطئ الرملة البيضاء بين العام والخاص

خريطة عام 1932 تظهر أن مساحة الشاطئ الرملي كانت أكبر بكثير مما هي عليه اليوم
عرف شاطئ الرملة البيضاء تحوّلات جذريّة، إثر تعاقب عمليّات الضم والفرز منذ أربعينيات القرن الماضي، وتعديل المراسيم المتعلّقة بالواجهة البحريّة لزيادة الاستثمار خدمةً لمصالح المتموّلين الكبار، على حساب حق الناس الطبيعي في الوصول الى الشاطئ، ويظهر ذلك جليّاً في مقاربة الخرائط والصور الجويّة بتسلسل. فالخريطة الصادرة عن سلطات الانتداب عام 1932 (الخريطة رقم 2) تظهر أن مساحة الشاطئ الرملي كانت أكبر بكثير مما هي عليه اليوم، وأنّ عقارات الـ"إدن روك" لم تكن يوماً صخريّة، وكانت في هذه الحقبة شاطئاً رمليّاً عامّاً. وأكبر دليل على ذلك الصور الملتقطة للموقع اليوم، إذ تم استخراج أكثر من 5000 متر مكعّب من الرمل، إلى أن بدأت المياه تملأ الحفرة. ومن جهة أخرى، نشأت هذه العقارات الأربعة عن عمليّة إفراز للعقار 2230 الموثّقة في عقد الإفراز والضم والمقاسمة بتاريخ 28/12/1949، التي أدّت الى فرز العقار 2230 الى 54 قسماً، وهذا العقد يحدد أن العقار 2230 الأصلي محتواه "قطعة رمليّة"، ما يؤكّد مرّة أخرى أن عقارات الإدن روك شاطئ رملي.
أمّا في خريطة رسميّة تعود إلى سنة 1965 (الخريطة رقم 3)، فنرى تحديد حدود مياه البحر (وفقاً للقرار 144/1925) لثلاث سنوات: 1933 – 1962 و1955. واللافت أن حدود العقارات "المتّصلة بالشاطئ" تقع تحت خط حدود البحر. وهنا نسأل الجهات المعنيّة كيف نشأت هذه العقارات إن كانت تصل اليها المياه، إذ إنه عند تحديد الشاطئ، تكون هناك تراجعات، لكن هذه التراجعات تضم عملياً العقارات. كذلك تظهر الصور الجويّة وخرائط من الستّينيات موقع حائط الكورنيش البحري الذي يفصل العقارات الخاصة عن الأملاك البحرية العامة. وتظهر الخرائط أن الحائط كان يمر وسط العقارات 4285 – 2235 – 4011 – 2231 و3689 (إدن روك)، وكانت تصل إليه المياه كما حدّدت حدود البحر لعام 1955.
على ضوء هذه المقاربة التاريخية لموقع الرملة البيضاء يبقى السؤال: أليس الرمل الملاصق للبحر تحت الكورنيش شاطئاً عامّاً؟ وبالتالي، أليس البناء على هذه العقارات يشكل تعدّياً على الأملاك البحرية حتّى ولو حصل المشروع على رخصة بناء ومراسيم استثنائية؟
مشروع "الادن روك" اليوم هو نموذج إضافي عن مشروع خصخصة الشاطئ العام على حساب السياسة المُدنيّة التي تضمن بقاء المساحات العامّة في المدينة مفتوحة للتلاقي، وهي أساسيّة لخلق مجتمع منصهر ومتطوّر، وبناء هذا المشروع سيفتح الباب لخصخصة ما تبقى من الشاطئ، فتخسر بيروت متنفّسها العام الوحيد. لذلك على كل الجهات المعنية تحمّل مسؤوليّاتها للحفاظ على شاطئ الرملة البيضاء والأملاك البحرية العامة على كل المستويات: بلدية بيروت والمحافظ والمجلس الأعلى للتنظيم المدني في شأن ترخيص البناء، إضافة الى وزارة ألأشغال العامة والنقل في ما يتعلّق باستمرار أعمال الحفر ونقل الرمل من عقارات الشاطئ، وصولاً الى وزارة البيئة المعنية بالتحرك فوراً والتدخل لإيقاف هذا المشروع لحماية شاطئ بيروت والثروات الإيكولوجية، فما يحصل اليوم على الرملة البيضاء تشويه ممنهج لطبيعة الواجهة البحرية وجريمة بيئية ومُدُنيّة بامتياز. فالخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية المصدّقة بالمرسوم 2366/ 2009 كرّست هذا الموقع كمحميّة وشاطئ رملي عام مفتوح للجميع ومن الضروري الحفاظ عليه.

* مهندسة معمارية ناشطة في جمعية "نحن"