عادت ساحة التل في طرابلس إلى الواجهة، وأطلّ معها مشروع المرأب مجدداً، بعدما استغرق التصدي له قرابة عامين، إلى أن "جُمِّد" تنفيذه، وكان ذلك سبباً في إيصال عدد من أعضاء المجلس البلدي الحالي إلى البلدية. فقد أعلنت بلدية طرابلس أخيراً عن مشروع إعادة بناء السراي العثماني، الذي هُدم في عام 1968، وجاء هذا الإعلان بعد زيارة وفد تركي لبلدية طرابلس بدعوة وتنظيم من رئيس لجنة التراث والآثار في المجلس البلدي الدكتور خالد تدمري الذي رافق الوفد من تركيا. وأوضح بيان البلدية أن أهداف الزيارة تمحورت حول ثلاثة أمور هي: إعادة بناء السراي العثماني ليغدو قصر طرابلس للثقافة والمؤتمرات، والمساعدة في وضع مخطط لتنظيم وسط المدينة التاريخي، وإعادة بناء مسجد القاضي عمر المُدمّر في سوق القمح في باب التبانة، بهبات مقدمة من اتحاد بلديات تركيا وبلدية إسطنبول الكبرى، بهدف إعادة إحياء التراث والآثار العثمانية التركية.
رمز 400 عام من تاريخ طرابلس

يعتقد مؤيّدو هذه الأهداف أن تطوير منطقة التل وتغيير واقعها الديموغرافي لن يكونا إلا من خلال إعادة إحياء الإرث التاريخي، بإنشاء قصر للمؤتمرات "شبيه" بالسراي العثماني، الذي يرمز إلى 400 عام من تاريخ طرابلس.
تفيد المعلومات بأن قصر المؤتمرات، المنوي تشييده، سيضم عدداً من المرافق: متحف لذاكرة طرابلس، مكتبة عامة، مكتبة لتوثيق المخطوطات التاريخية، قاعات اجتماعات، قاعة عرض، مسرح وبهو كبيران للأنشطة والاحتفالات، على أن ينشأ أسفله مرأب متعدد الطبقات يتراوح بين طبقتين وأربع طبقات.
يُشار إلى أن المبنى سيحتل أكثر من نصف ساحة التل، مع تحويل الباقي منها إلى منطقة مشاة، في محاكاة لـ"ميدان تقسيم" في مدينة إسطنبول، الذي أقرّت الحكومة التركية مؤخراً إعادة إنشاء سراي عثماني وسطه، ليكون مركزاً للثقافة والفنون، وكان قد واجه اعتراضات شعبية عارمة.

الجديد القديم

الفكرة ليست جديدة، بل طُرحت إبان رفض مشروع المرأب، وقد أحدثت انقساماً كبيراً في المجتمع الطرابلسي بكافة فئاته حينها، وطرحُها مجدداً استدرج الاعتراضات السابقة عليها، والكثير من هذه الاعتراضات هي نفسها الاعتراضات على مشروع المرأب نفسه.
أول تلك الاعتراضات هو إسقاط المشاريع على المدينة من دون تحديد موقعها في سياق رؤية بعيدة المدى وخطة شاملة متضمنة الجدوى الاقتصادية والاجتماعية وتفاعلها مع محيطها، إضافة إلى الحاجة إلى ساحة التل كساحة جامعة، انطلاقاً من أن جميع المدن في العالم ذات التخطيط المُدني القديم والحديث تتوسطها الساحات، فلمَ علينا التضحية بالساحة الوحيدة في المدينة وقلبها النابض؟ كذلك فإن ساحة التل لا تتجاوز مساحتها 4400 متر مربع، ومقارنتها بـ"ميدان تقسيم" أمر مستغرب، إذ إن الميدان المذكور تتجاوز مساحته 35 ألف متر مربع، عدا عن الحديقة الملاصقة له التي تتجاوز مساحتها 60 ألف متر مربع. لذا، فإن إنشاء مبنى في ميدان تقسيم لا يقتطع من مساحته سوى نسبة مئوية ضئيلة، في حين ان إنشاءه في ساحة التل، مع البراحات المخصصة له والخدمات، سيقضي على الساحة.

مباني طرابلس التراثية إلى زوال

يُطرح الكثير من علامات الاستفهام حول الحاجة إلى إنشاء مبنى "مستنسخ" شبيه بما هُدم منذ حوالى خمسين عاماً، ولم يعد موجوداً في الذاكرة الجماعية، ولا علاقة له بالأصل من حيث الشكل أو الاسم أو الأصالة، في الوقت الذي تتداعى فيه المباني التراثية وأصبحت آيلة للسقوط على رؤوس شاغليها، سواء في المدينة القديمة أو تلك الموجودة في محيط ساحة التل والزاهرية وغيرهما، وأيّ مشروع يُنفذ فيها حالياً أو مستقبلاً لا يهدف إلا إلى تجميل الواجهات بعذر أنها ملكية خاصة، رغم وجود عدد من الأنظمة التي تتيح التدخل حفاظاً على السلامة العامة أولاً ومن ثم الحفاظ على إرث موجود بالفعل قبل أن يصبح ركاماً.
بخلاف المدينة المملوكية، يوجد مبنى سيار الدرك المدرج على لائحة الجرد الأثري العام من الدرجة الأولى، وكان المجلس البلدي السابق قد اتخذ قراراً باستملاكه في عام 2013، إثر حملة قامت بها "الحملة المدنية لإنقاذ آثار وتراث طرابلس"، هدفت إلى استملاك المبنى وترميمه وتحويله إلى "متحف العلم والعلماء"، ليضم متحفاً وقصراً للمؤتمرات، لا سيما أن موقعه قرب وسط المدينة التاريخي ومساحته التي تقارب 1700 متر مربع يؤهّلانه لذلك، وكانت السمسرات حينها (من البلدية ومن خارجها) حالت دون استملاكه، فتُرك لمصيره من التخريب المتعمد والممنهج، في محاولات لهدمه وإنشاء مجمع سكني على أرضه، ما يطرح تساؤلاً عمّا إذا كان الأجدى إنقاذه قبل أن يتم إنشاء مبنى جديد. إذا كان الهوى اليوم يتركز على إعادة بناء الأبنية المُهدّمة بالفعل، فلماذا لا يتم استملاك أرض مسرح الإنجا، الذي هُدم عام 2010، وما زال حياً في الذاكرة الجماعية للمدينة، وموقعه ما زال شاغراً، وهو أول مسرح في الشرق الأوسط، وكانت قد انطلقت منه مسرحيات الثورة الفرنسية وغنّت على خشبته كوكب الشرق أم كلثوم؟

اعتراضات المرأب

هناك سؤال يُسأل: من أين ستدخل السيارات إلى القصر ومن أين ستخرج؟ هذا السؤال عينه طُرح عند إقرار مشروع المرأب، وظهر أن مشروع المرأب سيعمل على تكريس ازدحام السير في وسط المدينة، فكيف إذا أضيف إليه قصر مؤتمرات بكل ما قد يحويه من مرافق ونشاطات، ما سيعمل على زيادة تدفق السيارات إلى وسط المدينة بدل إخلائها أسوة بمدن العالم لتخفيض الأثر السلبي، إضافة إلى عدم إيجاد حلول لمواقف "التاكسيات" الموجودة حالياً في الساحة ومحيطها، القانونية وغير القانونية، وعدم إنشاء محطات تسفير لإخلاء الساحة والبولفار من الباصات والفانات المتجهة إلى سوريا وعكار وبيروت، إضافة أيضاً إلى عدم وجود دراسة وخطة عامة ومتكاملة للسير في المدينة، وخاصة أن تحويل السير في حال شغل الساحة بالمبنى وتخصيص الجزء اليسير المتبقي منها مع شارع التل للمشاة، سينتج منه إرباك عام ليس في محيط منطقة التل وحدها؟
كذلك، فإن الديموغرافيا السكانية التي ذُكرت كأحد أهداف إنشاء المبنى مرتبطة بالعديد من المتغيرات؛ فالفقر الزاحف من أطراف المدينة إلى وسطها لن يحله مبنى أياً كانت وجهة استعماله، بل هو بحاجة إلى حلول اجتماعية واقتصادية عميقة إضافة إلى تطبيق القانون الذي ضربت به البلديات المتعاقبة عرض الحائط وسمحت لكافة أشكال الفوضى بالتمركز في ساحة التل، وكأنها تقول لا نطبّق القانون إلا إن نفذنا ما نريد من مشاريع فيها!

قصر المؤتمرات بقرار بلدي سابق

المشروع الجديد يفسّر (ربما) لماذا لم يُلغِ أعضاء المجلس البلدي الجديد مشروع المرأب كلياً، رغم أن عدداً كبيراً منهم كان في الأمس القريب ضده. فالقرار المُتّخذ مؤخراً بشأن مشروع المرأب، بعد ضغط المجتمع المدني، لا يعدو كونه قراراً بسحب إذن مباشرة عمل المتعهد في المشروع، فيما يُفترض التراجع عن جملة قرارات مترابطة توافق على إنشائه. وكانت "لجنة متابعة مشاريع طرابلس" قد تقدمت باعتراضات حولها مرات عدة، استُجيب لبعضها خلال العهد البلدي السابق. وللمفارقة، تم التذرع ببعض هذه المطالبات لإقرار قصر المؤتمرات في الموقع عينه، كما حدث في القرار رقم 16/2015 الذي ينص على "التمني" على الحكومة التركية تبنّي إنشاء قصر للثقافة والمؤتمرات وسط ساحة التل، رغم أن مطالبات اللجنة ركزت على أهمية وضع مخطط توجيهي عام ومخطط لأولوية المشاريع وجدواها قبل إقرار أي مشروع.
من جملة القرارات التي طالبت اللجنة بالتراجع عنها القرار رقم 40/2015 القاضي بالموافقة على مشروع المرأب والموافقة على استخدام العقارين رقم 236 و237 من منطقة التل، بهدف تنفيذ المشروع، إضافة إلى "التمنّي على مجلس الإنماء والإعمار تعديل دراسة المرأب بما يلحظ إنشاء السراي فوقه"! هذا إضافة إلى القرار رقم 320/2015 الذي يؤكد أن المرأب مشروع حيويّ لساحة التل. وكذلك القرار رقم 185/2015 الذي جمّد تنفيذ المرأب (ولم يُلغِه) إلى حين تنفيذ المخطط التجميلي الذي سُمّي زوراً مخططاً تطويرياً، وقد شمل القرار عينه تعيين مجلس أمناء بمروحة واسعة من الصلاحيات المتعدية على صلاحيات البلدية وغيرها، رغم أن التعيينات يجب أن تكون بمرسوم وزاري وليست من صلاحيات المجلس البلدي.

الهبة التركية

هل جاءت الهبة التركية لتكرس مشروع المرأب بدمجه مع مشروع قصر المؤتمرات؟ ربما، بحسب ما تشير المعطيات الحالية، وربما يرحّب بها الكثير من الطرابلسيين بمبررات شتى، إما لجهة الرغبة في رؤية أي إنجاز على الأرض بعد عقود من الحرمان، أو بتأثيرات عاطفية، نوستالجية، سياسية، أو حرصاً على عدم ضياع هبة لا شك في أنها قيّمة جاءت بعد مساع من قبل الدكتور خالد تدمري، رئيس لجنة الآثار في المجلس البلدي.
ولكن ما لا شك فيه، أن طرابلس ليست بحاجة ملحّة إلى قصر مؤتمرات في ظل وجود عدد من المؤسسات تؤدي الغرض، إلا أن هناك حاجة إلى متحف ومركز لجمع ذاكرة المدينة وحفظها وتوثيق مخطوطاتها الزاخرة والثمينة قبل اندثارها وفقدانها، ولا سيما أن طرابلس مدينة العلم والعلماء، وهو على درجة من الأهمية تماثل ترميم المباني التراثية للحفاظ عليها قبل انهيارها.
ومن حسن الحظ أن المخاوف من فقدان الهبة التركية غير مبررة، لأن الهبة غير مشروطة، وهذا ما نص عليه قرار المجلس البلدي في تمنّيه على الحكومة التركية، ويؤكد ذلك ما نُقل عن الوفد التركي من أنه "سيجمع كل المقترحات لتقديمها الى رئيس بلدية إسطنبول، رئيس اتحاد بلديات تركيا"، أي ما زال كل شيء قابلاً للتفاوض ومعقوداً على ما يُقدّم لهم من مقترحات من قبل بلدية طرابلس.
لذا يعقد الكثيرون الآمال على توجيه الهبة وحسن إدارتها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، وألا يلبس المجلس البلدي ثوب سابقه ويتقمّص شخصية مجلس الإنماء والإعمار في فرض المشاريع على المدينة، وإلا فسيكون قصر المؤتمرات كالكرزة الحلوة التي زيّنت كعكة فاسدة.