ستقتل امرأة قبل نحو شهرين، في «مدينة» طمرة الفلسطينية، في الجليل الأسفل. المرأة ذات البطن المنتفخ حامل في شهرها التاسع، ومع ذلك ستقتل هي وطفلها بسكين... زوجها! ستهز هذه الجريمة جدران المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948، لكنها لن تكون الأولى ولا الأخيرة! فبعد مدة قصيرة، ستقتل امرأة أخرى في مدينة اللد (وسط فلسطين المحتلة) على يد أحدهم، وسيترك أبناؤها اليتامى وذووها في انتظار عودةٍ لا تتحقق. في مدينة الناصرة أيضاً، سيقتل طالب زميله في المدرسة بواسطة مسدس، وفي أم الفحم سيقتل شابٌ على يد ملثم في عُرس صديقه... تبدو الجريمة هناك كورمٍ سرطاني ضخم يستحيل الشفاء منه!أخيراً، خرج مئات الفلسطينيين في تظاهرة جابت شوارع اللد يوم الجمعة الماضي، منددين فيها بتفشي جرائم العنف التي راح ضحيتها آلاف القتلى والجرحى منذ عام 2000. فلنسأل أولاً ما هو العنف؟ سوسيولوجياً رفض وإنكار للآخر، وعدم الاعتراف به في محاولة لتحويله إلى غرض يناسب الحاجة العنفية. بالطبع، الإنكار لا يعني عدم وجود، ولا عدم الاعتراف قد يعني غياب المعرفة، بل يعني معرفة مبوتقة ومقولبة، تلائم تصور المجرم تجاه الضحية للتحكم في مصيرها.
لكن التعريف من هذا المنظور الاجتماعي قد يختلف، حين يراد بالفعل العنيف استرداد حق مسلوب كالحق بالأرض والمسكن، في حالة كالاحتلال التي قامت على أساسها إسرائيل. الشاب الفلسطيني المجرم الذي قتل زميله الفلسطيني في المدرسة، سيتحول هو نفسه إلى بطل لو قتل إسرائيلياً، على أساس أن الأخير رمز من رموز العدو الذي يضطهده ويسلبه حقه وأرضه!
تستفحل جرائم العنف وظواهره داخل المجتمع العربي الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948، فيما تتراجع نسب الجرائم في المجتمع اليهودي الإسرائيلي وتنحسر، كما تشير الإحصاءات الإسرائيلية الرسمية.
في حالة هذا المجتمع المركب تحل «نظرية المؤامرة» كتفسير لظاهرة العنف، لأن «المسؤول عن أمنهم» (إدارياً) هو الحكومة الإسرائيلية وشرطتها ومجالسها المحلية، لكن هذه المؤسسات السلطوية تضع الأقلية من السكان الأصليين في مكانة متدنية في سلم أولوياتها، وخصوصاً أن نظرتها تجاههم تنبع من مكانين: الأول التهديد الأمني، لأن الامتداد الثقافي والحضاري والهوياتي لهم هو الشعب الفلسطيني والعربي الذي تعده إسرائيل عدواً، والثاني هو «العنف الثقافي»، فتتعامل سلطات الاحتلال مع هذه الأقلية على اعتبارها فئة عنيفة، تتأصل الجريمة في جذورها عميقاً، مدعيةً أنه مهما استثمرت من جهود لمكافحة جرائم العنف والمخدرات فإن الظاهرة لن تنحسر.
اهتمام إسرائيل بالسلاح في الوسط العربي بدأ بعد عملية «ديزينغوف»

«إن تقتلونا، نسمع رصاصكم»

1163 ضحية قتل، وآلاف الجرحى، و53 ضحية بنيران الشرطة الإسرائيلية، و300 قاتل يتجولون بين البلدات والمدن الفلسطينية في أراضي الـ1948. هذه الأرقام المهولة هي حصيلة العنف المستشري منذ 2000، ما يعني بعملية حسابية بسيطة: قتيل واحد كل خمسة أيام!
«فخار يكسر بعضه»، هو المثل الأقرب من السياسة التي انتهجتها سلطات الاحتلال في تعاملها مع ظاهرة انتشار السلاح «غير القانوني» في المناطق التي احتلتها عام 1948، مدعيةً أنها تؤمن لهم الحماية والأمن وتطوّر لهم البنى التحتية، وتمنحهم سقفا عاليا من الديموقراطية.
السكان الأصليون، الذين بقوا في أرضهم، تحولوا بموجب سلطة الاحتلال وقوانينه إلى مواطنين في الدرك الأسفل، علماً بأنهم يحملون بطاقات هوية وجوازات سفر إسرائيلية، كما باتوا مجتمعا مهمشا مقارنة بـ«المهاجرين اليهود».
أغمضت إسرائيل وأجهزتها الأمنية أعينها عن السلاح المنتشر بصورة مرعبة بين الفلسطينيين، لكنها عندما نفذ الشهيد نشأت ملحم من بلدة عارة ــ عرعرة، عملية إطلاق نار في شارع «ديزينغوف» في تل أبيب وقتل إسرائيليين اثنين وجرح عددا آخر مطلع العام الحالي، اكتشفت أن هناك ساحات حرب وعربا يحملون أسلحة، مصدرها الأساسي من جنود جيش العدو الذين يبيعونها ثم يبلغون عن فقدانها للدوائر المعنية، كما صرح بذلك مؤخراً، وزير الأمن الداخلي، غلعاد أردان.
منذ عملية «ديزينغوف»، بدأ الموضوع يتصدر مداولات الكنيست، برغم أن النواب العرب حذروا على مدار سنوات من هذه الظاهرة التي تتمثل في حيازة السلاح غير المُرخص واستخدامه في شوارع المُدن والقرى لقتل الناس وترهيبهم، لكن من دون فائدة تذكر؛ الشرطة والأجهزة الأمنية الإسرائيلية تسعد بقتل الفلسطينيين لبعضهم بعضا، وهو ما يفسر استغلالها الدائم حجة رفض تدخلها من جهة الفلسطينيين كي تتملص من المسؤولية.
آنذاك، قال النائب في «القائمة العربية المشتركة» في الكنيست أحمد الطيبي، إن «إسرائيل بدأت الاهتمام بظاهرة السلاح غير المُرخص في الوسط العربي فقط بعد العملية في شارع ديزنغوف»، وخاطب المسؤولين الإسرائيليين بالقول: «عندما استُخدم سلاح وادي عارة ضد سكانها لم تسمعوا بذلك، ولكن عندما استُخدم ذلك السلاح في تل أبيب ضد اليهود، انتفضت الدولة بأكملها».
وفق المعطيات التي تقدم بها أردان في إحدى جلسات الكنيست، تبين أن جنود الجيش لا يبيعون فلسطينيي الـ48 بنادق أو مسدسات فقط، بل قنابل يدوية وعبوات ناسفة وقنابل صوتية وأسلحة أخرى أيضا. كما أنه بين عامي 2014 و2015 فُتحت 2500 ملف تتعلق بقضايا الوسائل القتالية وفقدان أسلحة.
يرفض فلسطينيو الـ48، بخلاف ادعاءات أجهزة تطبيق القانون في إسرائيل، انتشار ظاهرة السلاح غير المرخص، الذي يستخدمه المجرمون وتجار المخدرات ومجموعات المافيا والجرائم المنظمة، لكنهم في الوقت نفسه يرفضون تدخل الشرطة الإسرائيلية، لكونها شرطة احتلال ومتحيزة إلى طرف دون الآخر، وتعمل وفق أجندة سياسية معادية لهم، فضلا عن انتشار الفساد في أروقتها وارتباطاتها المشبوهة مع منظمات الجريمة. ودوماً، حذر المسؤولون الفلسطينيون في الداخل من استغلال حاجة مجتمعهم إلى الأمن الفردي والجماعي من أجل تنفيذ أجندات مرفوضة كقضية التجنيد الإجباري، أو الخدمة المدنية، أو استغلالهم في هدم البيوت العربية «غير المرخصة».
القضية تبدو معقدة ومربكة، وخصوصاً أن هناك عددا هائلا من الفلسطينيين يمكن أن يستطلعوا مدى خوفهم على حياتهم بمجرد المرور على صفحاتهم في موقع «فايسبوك». سيصدم البعض حين يكتشف أن هناك من يقول «أنا خائف على حياتي، أنا مهدد، قد أقتل في أي لحظة». وقد يصدم آخرون حين يعرفون أن هذا السلاح لو وجه ضد العدو، وضد كل من كان سبباً أساسياً في هذا الرعب، لكانت القصة قد انتهت من زمان!