منذ أن تخلى الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري، ليلة فرز الأصوات في الانتخابات النيابية عام 2008، عن انتصار قوى 14 آذار وأهدى الفوز الى حليفه الرئيس نبيه بري، بدأ التدهور الفعلي للحريري، وصولاً الى مغادرته لبنان وعودته إليه لاحقاً رئيساً سابقاً للحكومة، راغباً في العودة الى السرايا الحكومية عبر تزكية رئيس الجمهورية العتيد. كل التطورات المحلية، من الوضع الحكومي واغتيال رفيقيه وسام الحسن ومحمد شطح وتطورات الوضع السوري وانهيار الآمال التي كانت معلقة على سقوط الرئيس السوري بشار الأسد، وتداعيات الحرب السورية على لبنان ودخول التنظيمات الأصولية على الخط اللبناني، ووضع الحريري يتعثر سياسياً ومالياً، ويزداد معه تراجع تيار المستقبل، إلى أن جاء ترشيحه لرئيس تيار "المردة" النائب سليمان فرنجية، ليخلق عاصفة داخل التيار وينعكس على الجمهور الرافض لهذا الترشيح، إضافة الى تأزم العلاقة بينه وبين حلفائه، وعلى رأسهم القوات اللبنانية التي ذهب رئيسها الدكتور سمير جعجع الى ترشيح رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون.عكست الانتخابات البلدية، في أيار الفائت، غضب "الشارع السني" والمستقبلي تجاه قيادته وجعلته يدفع ثمن أخطاء سياسية متراكمة ومغامرات غير محسوبة النتائج، ما أظهر حجم الاستياء من تراجع ماكينة سياسية وإعلامية ومالية ضخمة، كانت تعمل لسنوات، الى أدنى مرتبة لها. ورغم دلائل الانتخابات البلدية، فإن مكابرة المستقبل والحريري ومستشاريه ظلت تحاول تصوير تداعيات معركة طرابلس التي خرج منها الحريري وكأنها تفصيل صغير، فيما كان نجم الوزير أشرف ريفي يتصاعد، ومعه كرة الانتقاد لأداء المستقبل في أكثر من منطقة. لم يكن عقاب جمهور المستقبل للحريري سياسياً فحسب، بعدما تأكد لقسم لا بأس به أن المال الحريري ينضب وأن زعيم المستقبل ليس مستعداً، بحسب ما يقول أحد عارفيه، لأن يدفع من ماله الشخصي في السياسة، وأن المال السياسي لم يعد متوافراً، فأقفل "الجدول" المالي ومعه تراجع الولاء السياسي.
أي تداعيات يمكن أن ترتد في البيئة التي تعمل تنظيمات أصولية على تأجيج التشدد فيها؟

اليوم، يقوم الحريري بمغامرة ثانية بعد مغامرته الأولى بترشيح فرنجية عشية الانتخابات البلدية، وفي انعطافته نحو عون مجدداً بعد لقاءات باريس وبيت الوسط قبل عامين، يضع الحريري نفسه وجمهور المستقبل والقوى السياسية في مأزق مزدوج:
يطرح ذهاب الحريري نحو ترشيح عون بعد المسار الطويل من العلاقة المتعثرة بينهما، وفي ظل رفض كتلة كبيرة من المستقبل لهذا الترشيح، وضع "الشارع السني" والمستقبلي في دائرة التحول نحو أطر أخرى، بعيدة عن "مفهوم الاعتدال" الذي يصر حلفاء الحريري على وصفه به. فهذه القاعدة التي رفضت فرنجية وترفض عون حكماً، ستجد نفسها أمام حالة رفض لخيارات المستقبل، وقد أظهرت نتائج طرابلس البلدية وتحولات التنظيمات الأصولية وبروز شخصيات سياسية مناوئة للحريري، أنها ليست محكومة بآلية الانضباط المطلقة لزعامة الحريري. فأي تداعيات يمكن أن ترتد في البيئة التي تعمل فيها ليل نهار تنظيمات أصولية على تأجيج عناصر التشدد ورفض خيارات الحريري، وهل يمكن القياداتِ السياسية أن تتنبه الى أن خيارات الحريري بتحدي جمهوره لن تكون مفاعيله سهلة؟ فأي حوار بين حزب الله والمستقبل يظل مفيداً إذا ما اعترض أهل الطريق الجديدة مثلاً على انتخاب الحريري، عون رئيساً للجمهورية، فيما نواب وقيادات في المستقبل لا يعرفون بعد كيفية "إخراج" هذا التحول في خطاب الحريري وتوجهه نحو عون الذي يرفضونه بالمطلق، ولو أنهم سيرتضون التصويت له إذا نضجت طبخة الرئاسيات. فخطورة الواقع السني والمستقبلي يجب أن تدفع القيادات السياسية الى الإحاطة بمفاعيل هذا التحول الحريري، لأن فرط هذا الشارع سيكون مدوياً بنتائجه وخطورته على الشرائح السياسية كافة.
المأزق الثاني، يكمن في احتمال تراجع الحريري عن اختيار عون، بعد فورة الأيام الأخيرة.
قد تكون صدفة أن يتزامن توقيت الحريري والتخلي عن ترشيح فرنجية والتوجه الى عون، مع ما تعانيه شركة أوجيه، ومع صرف عشرات الموظفين من المؤسسات الإعلامية لتيار المستقبل. يكفي هذا الانعكاس لصحافيين وموظفين دانوا بالولاء للحريري وهم يدافعون عن سياسته طوال أعوام، وهم يتطلعون اليوم الى هذا الفريق من المستشارين الذين يخططون لاختيار عون رئيساً بعد معاداته لسنوات، وهم لم يهضموا بعد ترويجهم لاختياره فرنجية. وضع الحريري نفسه أولاً في مواجهة قاعدته وكتلته التي يدب فيها الخلاف السياسي والشخصي حول الخيارات التي تضاعف الخسائر ولا تزيد أي أرباح على رصيد الحريري المتراجع أصلاً. يكفي ما بدأ يحصل بين المؤيدين لاختيار عون والمعارضين من سجالات مكتومة وبعضها صار مفضوحاً.
ووضع الحريري نفسه ثانياً في مواجهة مع فرنجية، سواء استمر بترشيح عون أو تراجع. وحدها هذه الانعطافة والتخلي عن مرشحه الثاني (بعد جعجع)، كافية ليحصد الحريري استياء رئيس تيار المردة. فكيف ستكون عليه إذاً حال الحريري ومعها الساحة اللبنانية إذا حصد مجدداً غضب العونيين، بعد غضب القواتيين إثر ترشيح فرنجية. فالعاصفة الحريرية غير المحسوبة نتائجها وتداعياتها بدقة، أثارت أولاً الرئيس نبيه بري، وهي ثورة لا يعتقد أنها ستنتهي بسهولة ومن دون أثمان على طريقة بري. لكن التراجع عنها سيؤدي الى استعداء الشارع المسيحي للحريري، وإلى تحويل هدنة الأشهر والأسابيع الأخيرة إلى نقمة عارمة، سترتدّ على العلاقة بين جمهورين وليس بين القيادتين السياسيتين فحسب. فمن له مصلحة اليوم بإعادة توتير الوضع الداخلي، ومن له مصلحة بتذكية خلافات طائفية وشعبية؟ وهل بإمكان أي عاقل أن يتصور ردة فعل العونيين والجمهور المسيحي على هذا اللعب المتمادي بساحاتهم وتزكية قادتهم واحداً تلو الآخر، ومن ثم التراجع عنهم واحداً تلو الآخر؟ لأن الخشية من ردود فعل غير محسوبة النتائج تترك أثرها على مصير البلد كله، وتتعدى الإطار الضيق، بعد عامين ونصف عام من الشغور الرئاسي وتعطيل كل المؤسسات.
هذا كله في كفة، وردة الفعل السعودية على خيارات الحريري في كفة.