كانت عيني الكندية للتو تفتح على مشهد الشرق الأوسط بفارق سبع ساعات. كانت الرسالة الأولى من بلاد الاغتيالات والكتب: "شفت شو صار بناهض حتّر، بتعرف خيفانة عليك، معقول اسم الكتاب ينفهم غلط".كان السؤال الذي انقدح في ذهني لحظتها، هل ينبغي أن أخاف من عنوان كتابي الجديد "إله التوحش... التكفير والسياسة الوهابية"؟
للحظة فكرت في أنها نهاية تليق بكاتب، بل هي ليست نهاية، فهي كتابة له لكن بحبر أحمر. لقد غدا ناهض حتّر أسطورة. لن يفكر أحد في مساحات الاختلاف معه، ولن يفكر أحد في الأطراف التي كان يقف ناهض على أقصى حدودها. سنخجل جميعاً من أن نتحدث عن صغائر الاختلاف معه، وسيصبح العنوان الكاتب المقتول، كما أصبح عنوان فيلسوف الإشراق السهروردي المقتول، أو حسب تعبير ابن تيمية "المقتول على الزندقة" أو المقتول في حلب.
الدم أبلغ من الحبر في اللحظات العدمية الكبرى، كاللحظة التي نعيشها، يكاد الحبر يفقد بلاغته في التعبير عن أزمتنا أو اقتراح مخارج لها أو توصيف حالتها أو تفكيك بنيتها. تصبح اللحظة أكثر إغراءً للكتابة بالأحمر، ليس رغبة في الشهادة ولا حتى رغبة في تقديم درس في التضحية أو خوض معركة تستحق أن نموت من أجلها، ليس من أجل ذلك كله ولا بعضه، بل من أجل أن نعيش على نحو استثنائي في ما يمكن أن نسميه المشهد الثقافي العام. أقولها بصراحة: هذا ما يدفعني لأن أظل متمسكاً بعنوان كتابي، وليذهب المستميتون في التوحش باسم الدفاع عن الذات الإلهية إلى جحيم الحور العين.
لقد قلت "الذات الإلهية" وفي ذهني هلوسات محمد بن عبد الوهاب وهو يردّد عشرات المرات عبارته الأثيرة "إن العبادة هي التوحيد، لأن الخصومة فيه". هو يعني توحيد الذات الإلهية وتنزيهها والدفاع عنها والنطق باسمها والحرب من أجلها والخصومة فيها، تلك هي العبادة. كان قاتل ناهض حتّر يمارس عبادته وهو يطلق رصاصته في منتهك الذات الإلهية.
ناهض حتّر هو أحد ضحايا هذه الخصومة، وأستطيع أن أقول من خلال تقليب مئات الصفحات من نصوص التوحش في تراثنا إن هذه الخصومة ظاهرها عقائدي وباطنها سياسي، وبطن السلطة أو الدولة أو الخلافة يزداد تكرّشاً وترهّلاً كلما استخدمت التوحيد أداة خصومة سياسية، كما فعلت تجربة الخلافة الإسلامية في تاريخنا، وكما فعلت الدولة السعودية الأولى (1744 ــ 1818) وما زالت تفعل، ولن تتوب عن أن تفعل.
التوحيد هو موضوع الخصومة وهو موضوع السياسة في الوقت نفسه. فالجماعات والفرق تختصم حين تختلف في السياسة، وحين تريد أن توجد مشروعية لخلافها السياسي تلجأ إلى العقيدة. وليس هناك أقوى من أن تضرب خصمك في عقيدته (التوحيد) فتخرجه من الإسلام، وذلك هو ما حصل طوال فترات الصراع السياسي في تاريخنا.
افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. هي نار السياسية وليست نار الآخرة. والافتراق هو الخصومة في التوحيد، فكل فرقة تدّعي أنها توحد الله وتعطي الإله ما تستحقه ذاته من صفات التنزيه، في حين أنها تنزه نظامها السياسي ضد شرك الاعتراض والاحتجاج والمطالبات.
من هي الفرقة الناجية اليوم؟ الفرقة الواحدة الناجية اليوم التي تجد نفسها خارج الاثنتين والسبعين ليست غير الوهابية. فهي التي تخاصم الجميع في توحيدهم خصاماً دونه التكفير والتقتيل والتفجير والشقاق والكراهيات المنفلتة من الإنسانية.
لقد وضعت الحكومة الأردنية نفسها في الموضع الذي وضع فيه محمد بن عبد الوهاب الدولة السعودية. فقد جعلها تختصم مع الناس في التوحيد الذي جاء هو به وفرضه شعاراً للدولة. كان ناهض حتّر ضحية هذه الخصومة، خصومة الدولة التي صارت فرقة تبحث عن نجاتها بقتل الفرق التي تختصم معها بدل أن تصير دولة توحد جميع الخصوم تحت مرجعيتها الجامعة والحافظة للمختصمين.
هكذا يعمل "إله التوحش"، يُوَهْبِن الدولة ويحوّلها إلى خصم عقائدي يسفك دماء المعارضين لها على أعتاب قصور عدالتها المزيفة.

*كاتب من البحرين