قد ينتخب ميشال عون رئيساً للجمهورية في 28 أيلول 2016. أو بعد هذا التاريخ. وقد يكون ذلك مدخلاً فعلياً وجدياً لبداية حل للأزمة اللبنانية الراهنة. لكن، وبالمقدار الفرضي النظري نفسه، قد لا ينتخب عون في ذلك التاريخ. وقد لا ينتخب أبداً. وبالتأكيد، فإن عدم انتخابه لن يحل أي أزمة ولن يبسط أي عقدة ولن يفكك أي مأزق. فالمسألة أكثر عمقاً وبنيوية. وتبدأ بالسؤال: هل تريدون هذا اللبنان؟في النهاية، وبالشكل الأكثر تبسيطاً، يقوم لبنان اليوم، ومنذ قيامه، على ركيزتين: الدولة، والطائفة. حاولت الدولة، ذات مرة مع فؤاد شهاب، أن تلغي الطائفة. ففشلت. ولأسباب كثيرة معقدة ومتشعبة. مع أن التجربة كانت تستحق أن تحصل وأن تنجح. وحاولت الطوائف كل مرة أن تلغي الدولة. وكانت النتيجة، عندما نجحت، كارثة كبرى. دم وفوضى وأحقاد وعدم. فما بالك بالحالات التي لم تنجح فيها! هكذا، ثبت، وحتى إشعار آخر، أن هذا البلد قائم على ثابتتين متلازمتين: دولة وطائفة. ثنائية لن يبدّلها إلا دخول مكون ثالث مستحيل اليوم، اسمه المواطن الفرد. مستحيل، طالما أن الحب بين مواطنين اثنين، تحدد أصوله الطوائف، وتقبل الدولة بتحديداتها وتكرسها وتضمن حصريتها، في مساكنة مصلحية مذهلة بين الطرفين...
هذا هو لبنان الراهن إذن. ولأنه كذلك قامت ديمقراطيته الخاصة على هذه التركيبة الثنائية الغريبة العجيبة، الهشة والمستدامة في آن، المولدة للأزمات والصامدة في كل الحلول والصانعة لها معاً. هي ديمقراطية التوازي بين بنية الدولة وبنيات الطوائف. ضمن نظام ديمقراطي برلماني عادي. لا مركب دستورياً ولا متعدد مركزياً. إنها "الصيغة" الشهيرة التي حكي عنها وكتب منذ ثمانية عقود. لكن، كيف "نقرّشها" اليوم؟
الأكيد أن ثمة مسألتين اثنتين تشكلان صلب هذا النظام. وهما بكل بساطة السلطتان التنفيذية والتشريعية. هكذا يضحي السؤال، كيف نكيف هاتين السلطتين مع ثنائية الدولة والطوائف؟ كلام الدستور وما حوله من تفسيرات وتأويلات، لم يكف. بدليل المأزق الراهن.
في مسألة قانون الانتخاب، رمى رئيس المجلس النيابي نبيه بري، قبل فترة، طرحاً أولياً قد يصلح نموذجاً للحل المطلوب. ألا وهو اقتراح القانون القائم على مرحلتين. مرحلة أولى لاختيار وغربلة المرشحين. أو دور تمهيدي أو مرحلة تصفية أولية. بعدها مرحلة الانتخاب الفعلي لأعضاء البرلمان. لم يبلور بري اقتراحه. ولم يقدمه مفصلاً مكتوباً. وبالتالي لم يحدد نطاق كل من الدورتين. وهذا عنصر قوة إضافية للفكرة. ذلك أن صيغها قد تكون كثيرة لا تحصى: دورة أولى على صعيد الأقضية بنظام أكثري، تليها ثانية على صعيد المحافظات الحالية أو غيرها، أو لبنان مع نسبية. أو دورة أولى بين الطوائف، وفق دوائر جغرافية متعددة بدورها، وثانية بين كل اللبنانيين على قاعدة حفظ التساوي... هذا فضلاً عن عدد المرشحين المقبولين ومستويات التأهيل وغيرها من التفاصيل غير المكتملة. لكن الأهم والأساس، أن قانون انتخاب كهذا، يقوم على ثنائية ما. أي على مستويين. وهو يلائم بنيوياً طبيعة نظامنا الهجين. هكذا، كما في النظام، يكون في قانون الانتخاب مستويان أيضاً. مستوى الطائفة. ومستوى الدولة. يتراكمان ويتكاملان. فتجد فلسفة الميثاق صدى لها في فلسفة القانون العضوي الأول، المؤسس لكل سلطات هذا النظام. فكرة تستحق التفكير، لا التكفير.
تبقى المسألة الثانية، السلطة الإجرائية التنفيذية، كيف نكيفها مع الطبيعة الثنائية لنظامنا؟ إذا كانت مواءمة السلطة التشريعية مع الطبيعة المركبة لميثاقنا، ممكنة خطياً وحرفياً، عبر قانون الانتخاب، فإن الأمر لا ينطبق بالصيغة الخطية نفسها، على أصول تكوين السلطة التنفيذية. بدليل أن وثيقة الوفاق الوطني، ومن بعدها الدستور الذي انبثق منها سنة 1990، وضعا صيغة خطية رقمية لميثاقية مجلس النواب، عبر معادلة التساوي بين المسيحيين والمسلمين. لكنهما عجزا عن وضع نص خطي واضح، حول ميثاقية السلطة الإجرائية. اقتصر الأمر على عموميات مطاطة. لا بل وقفا عند اللامكتوب. أي عند العرف السابق، حول مارونية الرئاسة وسنية رئاسة الحكومة وشيعية رئاسة المجلس. لكن من دون نص ولا صيغة مكتوبة ولا عقد خطي. وهذا ما يؤشر إلى إشكالية هذه المسألة. غير أن مصلحة البلد تفرض إيجاد حل لها. حل قائم على ثنائية أخرى، ولو غير مكتوبة. على عقد سياسي ميثاقي واضح، ولو غير خطي. عقد يقضي في أذهان اللبنانيين، وخصوصاً السياسيين ومتعاطي الشأن العام، بقيام معادلة كالتالي: أن تقوم السلطة الإجرائية التنفيذية اللبنانية، أي الحكومة ومجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية، على قاعدة تحالف أكثريات الطوائف. بينما تقوم المعارضة اللبنانية على تحالف أقليات الطوائف. فلا تختار أكثرية طائفة معينة، ممثل أقلية طائفة أخرى، شريكاً لها في السلطة. لأن تاريخنا يثبت أنه كلما حصل أمر كهذا، كسر التوازن وسقط البلد...
قد ينتخب ميشال عون في 28 أيلول أو بعده. وقد لا ينتخب أبداً. لكن إذا ما قررت أكثرية غير مسيحية اختيار ممثل المسيحيين في الرئاسة، علينا أن نتيقن عندها أن هذا اللبنان إلى زوال. تماماً كما يوم كانت أكثرية مسيحية تختار شريكها المسلم من خارج ممثل الأكثرية المسلمة. وقد يكون زوال هذا النظام جيداً. لكن لنذهب عندها إلى الدولة المدنية مباشرة. أما وهم حكم طائفة لأخرى فأقصر طريق إلى الكارثة.