يصدر في الغرب العديد من الكتب عن لبنان، معظمها مبني على أطروحات جامعيّة عن حزب الله. القيّم في تلك الدراسات قليل (مثل كتاب ميلاني كيميت عن «التكافليّة الرحيمة: الرعاية الاجتماعيّة والطائفيّة في لبنان»، الصادر عن دار نشر جامعة كورنيل). وخلافاً لحقبة الثمانينيات، لم تعد سنوات الحرب الأهلية اللبنانية تلقى اهتماماً من الدارسين والدارسات. لكن صدر للتوّ في الولايات المتحدة كتاب مهم لجيمس ستوكر عن دور الحكومة الأميركيّة في السياسة اللبنانيّة، خصوصاً في حقبة الحرب الأهليّة — في مرحلة السنتيْن من طورها — بعنوان: «ميادين التدخّل: السياسة الخارجيّة الأميركيّة وانهيار لبنان، ١٩٦٧ ــــ ١٩٧٦»، وهو أصلاً أطروحة للدكتوراه في مؤسّسة الدراسات العالية في جنيف. والكتاب يعتمد على الأرشيف الأميركي (المتشعّب) المنشور.وليس هذا الكتاب الأوّل عن تاريخ لبنان عبر الأرشيف الأميركي، فقد سبقه كتاب إيرين غندزير عن دور الحكومة الأميركيّة في حرب الـ١٩٥٨. لكن الكتاب الذي بين أيدينا سجّل سابقة في نشر معلومات لم تُكشف من قبل. وقد بحث المؤلّف في أكثر من مركز أرشيفي رسمي أميركي (يختصّ ليس فقط في سجلات وزارة الخارجيّة الأميركيّة وإنما في سجلات مجلس الأمن القومي ووكالة المخابرات المركزيّة ومجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض والسجلّ الشفوي لديبلوماسيّي وزارة الخارجيّة) بالإضافة إلى مكتبات الرؤساء (لليندون جونسون وريتشارد نيكسون وجيري فورد أوراق خاصّة بجوزيف سيسكو وغيره من الديبلوماسيّين الأميركيّين). وأدى التمحيص والبحث الدقيق الذي أجراه المؤلّف إلى ربط خيوط لم تكن مربوطة بهذا الوضوح عن ضلوع الحكومة الأميركيّة في إشعال الحرب الأهليّة وفي استمرارها (ويمكن قياساً الإعتبار من الدور الأميركي في لبنان في حقبة الحرب الأهليّة وما قبلها لفهم هذا الدور في لبنان في مراحل أخرى، أو في سوريا حالياً). لكن تفسير المؤلّف لتلك الوثائق متحفّظ بعض الشيء، ربّما بسبب سياساته أو بسبب عدم ربط الوثائق بغيرها من المعلومات عن الحرب الأهليّة، خصوصاً أنه اعتمد على عدد قليل من الكتب عن الحرب (وجلّها يمينيّ النزعة).
حكومتا الأردن وإسرائيل أبلغتا واشنطن بقيامهما تسليح ميليشيات اليمين

وفي مراسلاتي مع المؤلّف، راودني الشعور أنه (وهو باحث مجتهد) لم يُدرك أهميّة ما توصّل إليه من معلومات بحثيّة، مع أنه كوّن فهماً أكيداً للوضع اللبناني ولدور الحكومة الأميركيّة فيه (وهو درس اللغة العربيّة في دمشق، وأجرى على مدى سنة أبحاثاً في لبنان، قابل فيها بعض المعنيّين). إلا أن الاستنتاج من بعض الوثائق قد يتخطّى الاستنتاجات المحدودة (بعض الشيء) الواردة في الكتاب. وقد تزامن نشر الكتاب قبل أسابيع مع نشر المخابرات الأميركيّة لنصوص من التقارير الإخباريّة التي يتلقّاها الرئيس الأميركي كلّ صباح، لحقبة ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد. وقد قارنت بين بعض ما ورد في تلك التقارير مع وثائق الكتاب المذكور. لكن يجب التنبيه الى ما يأتي قبل الشروع في البحث في موضوع المسؤوليّة الأميركيّة عن الحرب المدمّرة:
أوّلاً، لا أتبنّى الوجهة السياسيّة (صراحة، لا أعرف توجّهاته السياسيّة) للمؤلّف. لكنني صارحتُه بأن منحاه السياسي أزعجني في أكثر من مفصل، خصوصاً وأنه لم يذكر أخبار القصف الإسرائيلي للبنان في الستينيات والسبعينيات وتفاصيل قتل وجرح المدنيّين، وكان يركّز على المزاعم الإسرائيليّة عن إصابة فدائيّين. كما أنه لم يستوعب، أو لم يرغب في تقدير، حجم الإرهاب الذي فرضته إسرائيل على لبنان في سنوات مواجهتها مع المقاومة الفلسطينيّة — حتى لا نتحدّث عمّا تلاها. كما انه ناقض نفسه في صفحتيْن (١٢ و١٣) عندما زعم بداية أن هدف إسرائيل من ضربها للبنان كان الحماية الذاتيّة للكيان الاحتلالي، لكنه ذكر في الصفحة التي تليها (مستشهداً بكرستين شولتز التي كتبت عن الضلوع الإسرائيلي في الداخل اللبناني، بناء على الأرشيف الإسرائيلي) ان هدف العدوّ كان أيضاً تكوين السياسة في لبنان بما يلائم مصالح العدوّ.
ثانياً، لقد قلّل المؤلّف من حجم الصراع الطبقي والجور الاجتماعي في المجتمع اللبناني قبل الحرب، ولعب دوراً في اندلاعها، لناحية أن القوى الطبقيّة النافذة، خصوصاً تلك المتمثّلة بالزعامات المارونيّة التقليديّة آنذاك والمتحالفة مع المصالح الاقتصاديّة الأميركيّة والسياسيّة الأميركيّة ــــ الإسرائيليّة، هي التي أشعلت الحرب الأهليّة. أما الذين مثّلوا فقراء لبنان (في أحزاب الحركة الوطنيّة اللبنانيّة وحركة «أمل») وتحدّثوا باسمه واُثروا على حسابه فقد تمنّعوا عن خوض الحرب، لا بل قاوموا كل الدعوات للتحضير لما كان يبيّته حزبا الكتائب و«الأحرار» في لبنان من شرور ضد الوطن. كما أن المؤلّف يعترف بأن الوثائق تؤكّد بأن الحكومة الأميركيّة «سهّلت» (ص. ١٥) نقل السلاح والعتاد إلى ميليشيات اليمين في لبنان، لكنه يقول إن ليس هناك ما يؤكّد أن الحكومة فعلت ذلك مباشرة (ص. ١٨)، هذا عدا عن الموافقة الأميركيّة على التسليح الإسرائيلي والأردني لتلك الميليشيات. لكن تسليح الميليشيات حول العالم لا تقوم به الحكومة الأميركيّة رسميّاً عبر سفاراتها فقط، إذ ان هذا الأمر يمكن أن يُناط بوكالة المخابرات أو بوكالة استخبارات الدفاع (وزمن الحرب الأهليّة في لبنان كان زمن قلّت فيه مراقبة الكونغرس على أجهزة الاستخبارات). لكن حكومتيْ الأردن وإسرائيل أبلغتا الحكومة الأميركيّة (من وثائق سنة ١٩٧٦) بنيّتهما أو بقيامهما بتسليح ميليشيات اليمين الطائفي.
كما أن الصورة التي يوحي بها المؤلّف في الكتاب بأنّ هنري كيسنجر لم يكن كثير الاهتمام بالوضع اللبناني تتناقض مع الوثائق التي نُشرت حديثاً عن «التقارير الاخباريّة الرئاسيّة» التي تعدّها وكالة المخابرات الأميركيّة للرئيس كل صباح (عن عهدي نيكسون وفورد). وهذه الوثائق تظهر أن الموضوع اللبناني في عهد فورد، مثلاً، كان يحتل موقع الصدارة، وكان التقرير اليومي يحتوي على تحديثات يوميّة عن مجريات المعارك في الحرب الأهليّة (بصورة أكثر تفصيلاً مما يُظنّ).
أما في ما يتعلّق بالأرشيف الأميركي، فيجب تذكير القارئ (والقارئة) في العالم العربي بجملة من الحقائق عن نشر الوثائق الأميركيّة:
١) إن الإدارات الأميركيّة أكثر تمسّكاً بالسريّة ومعاداة الشفافيّة من حكومات الغرب، وهي تزداد سريّة. وإدارة باراك أوباما، مثلاً، فاقت سابقاتها في التقليل من نشر الوثائق (حسب قانون «حريّة المعلومات»، كما انها قست في معاقبة من سرّب وثائق أميركيّة).
٢) إن التقتير والتكتّم في نشر الوثائق عن الشرق الأوسط يفوق التقتير في نشر الوثائق عن مناطق أخرى في العالم لأن السلالات الحاكمة (من دول الخليج إلى آل جنبلاط إلى الهاشميّين وطغاة المغرب) هي هي، على مرّ عقود طويلة تمتدّ على أكثر من قرن من الزمن. ولهذا، فإن الحكومة الأميركيّة لا تريد أن تورّط وكلاءها وأدواتها أو تصيبهم بالحرج السياسي أو المخاطر. ربما يُقال إن الحكومة الأميركيّة نشرت الوثائق المتعلّقة بانقلاب المخابرات الأميركيّة في إيران عام ١٩٥٣، وهذا صحيح. لكن ذلك حدث بناء على تقدير رسمي بأن أولاد الشاه لن يعودوا حكّاماً على إيران. ولو كان هناك شكّ صغير بامكانيّة عودة هؤلاء لما كانت الحكومة قد سرّبت وثائقها عن تلك الفترة.
٣) إن نشر وثائق «ويكيليكس» سيزيد من الحرص على السريّة من قبل الحكومة الأميركيّة التي رأت مفاعيل نشر الوثائق والاحراج الذي لحق ببعض من وردت أسماؤهم (خارج لبنان، الذي لا يكترث لعلاقة الساسة برعاة أجانب، لكن الحكومة الأميركيّة حاولت ان تردّ الجميل لبعض مَن وردت أسماؤهم، فكان ان منحت وظيفة اسميّة بلا صلاحيّة لإلياس المرّ في صندوق الأنتربول).
٤) لا تنشر الحكومة الأميركيّة الوثائق كما هي، ولا تنتقي منها ما تريد فقط: هي تنشر ما تنشر فقط بعد اخضاعه لعمليّة رقابة وإزالة وتحرير تمرّ على أكثر من جهاز حكومي حتى لا تتعرّض مصالح أميركا الحاليّة للخطر، وحتى لا يُصاب حلفاء أميركا حول العالم بالاحراج.
٥) بعض التسريب الأميركي مشبوه: مثل ورود أسماء أبو حسن سلامة، أو أخيراً اسم باسل كبيسي كعميل أميركي في كتاب كي برد، «الجاسوس الحسن». ولماذا تسرّب الحكومة أسماء هؤلاء فقط؟ هذا مريب.
أما عن الوثائق التي ترد في الكتاب (الذي كان يمكن بحكم طبيعته الأكاديميّة ونشره عن دار نشر أكاديميّة، أن يضيع أو أن يلقى التجاهل الذي يصيب الكثير من الكتب الأكاديميّة القيّمة) فيمكن التقديم لها بسلسلة من الملاحظات عن السياسة الأميركيّة نحو لبنان في الفترة المذكورة.
أولاً، كانت الحكومة الأميركيّة تصرّ على ألّا تمرّ علاقتها بالحكومة اللبنانيّة عبر الطرق الديبلوماسيّة الرسميّة. كانت تصرّ على أن يعيّن الرئيس اللبناني (في عهدي شارل حلو وسليمان فرنجيّة) مستشاراً قريباً منه كي يتم معه التداول في الأمور البالغة السريّة في العلاقة بين الدولتيْن (وكي تبقى خارج أرشيف وزارة الخارجيّة اللبنانيّة). عيّن حلو لهذه الغاية ميشال خوري (وكانت الصفة الرسميّة التي لازمته في عهد حلو هي «رئاسة المجلس الوطني لإنماء السياحة»، فيما غابت عن سيره — راجع مثلاً كتيّب الياس الديري، «ميشال الخوري: ميثاق جديد للبناني جديد»، ملف النهار، ١٩٧٠ ــــ حقيقة دوره كمندوب الرئيس الحلو لدى الإدارة الأميركيّة). وقد أخبرني المؤلّف ستوكر أن خوري تردّد في الحديث معه بعد أن فاجأته معرفة الأوّل بحقيقة دوره في عهد حلو. أما سليمان فرنجيّة فقد عيّن صهره لوسيان الدحداح، وكان الرسول بين الرئيس اللبناني والسفير الأميركي يتجاوز وزير الخارجيّة، حتى في الفترات التي كان فيها الوزير مقرّباً من الرئيس اللبناني (مثل خليل أبو حمد — لنا عودة اليه ــــ أو فؤاد نفّاع في عهد فرنجيّة).
ثانياً، كانت الحكومة الأميركيّة والزعماء الموارنة (خصوصاً شهاب والحلو وإده وشمعون والجميّل، والجد فرنجيّة وقادة الجيش) يتحدّثون بصراحة تامة عن نوازعهم الطائفيّة وعن حرصهم على الحفاظ على نظام الهيمنة الطائفيّة.
ثالثاً، إن الحكومة الأميركيّة — منذ عهد كميل شمعون، خصوصاً انتخابات عام ١٩٥٧ التي موّلتها (قال مسؤول محطة المخابرات الأميركيّة في بيروت في حينه، ويلبور افلاند، في كتابه «حبال من رمال» إن الحكومة الأميركيّة «ابتاعت» الانتخابات لشمعون. وقد قاضت المخابرات الأميركيّة افلاند في ما بعد لتسريبه أسراراً عن عمل الوكالة في الشرق الأوسط، لكن المحكمة رفضت النظر في القضيّة)، كانت شريكة فعليّة وأساسيّة في الحكم في لبنان، ولم تشذّ حقبة فؤاد شهاب عن ذلك.
رابعاً، لم تكن مفاوضات لجان الهدنة في الناقورة — ولا تزال على الأرجح خصوصاً أن الحكومة اللبنانيّة وقيادة الجيش ترفضان حتى الساعة نشر محاضر تلك الاجتماعات المشينة — بين الوفود العسكريّة اللبنانيّة وبين الوفود العسكريّة الإسرائيليّة العدوّة إلا ستاراً للمفاوضات والتنسيق السياسي بين حكومتيْ البلديْن، وبتشجيع أميركي مباشر. وإلا لماذا امتدّت مفاوضات الهدنة من عام ١٩٤٩ إلى عقود طويلة؟ هل كان لبنان يمرّ بفترات حرب ثم فترات هدنة كي تكون هناك حاجة إلى كل تلك المفاوضات باسم «الهدنة»؟ هذه المفاوضات كان مشبوهة عندما كانت قيادة الجيش عبارة عن جيش لحد جنيني (قبل الطائف)، ولا تزال مشبوهة عندما تغيّرت عقيدة الجيش. وقبل أيّام فقط، أصدرت قيادة الجيش بياناً عن المفاوضات في الناقورة تناقض مع بيان «اليونيفيل». إن المفاوضات والرسائل المباشرة بين الحكومتيْن تجري باستمرار في تلك المفاوضات الوديّة.
كانت واشنطن تصرّ على أن يعيّن الرئيس اللبناني مستشاراً للتداول في الأمور السريّة بعيداً عن الخارجية

خامساً، لم يكن الحلف الثلاثي (الذي جمع بين أقطاب الموارنة، شمعون وإدة والجميّل، وأضيف إليه فرنجيّة بعد انتخابه رئيساً) إلّا فريقاً تآمر على المقاومة الفلسطينيّة وعلى اليسار اللبناني بتنسيق مع أميركا والعدوّ الإسرائيلي. ولم يكن ريمون إدّه بعيداً عن أهواء الحلف حتى نشوب الحرب الأهليّة عندما ابتعد عنها (كان لـ«الكتلة الوطنيّة» ميليشيا خاصّة بها لكن إدّه حلّها بعد نشوب الحرب، ربّما لعلمه أنه لم يحسن التنافس مع «الأحرار» و«الكتائب» في العمل الميليشياوي).
سادساً، لقد بولغ كثيراً في نفور سليمان فرنجيّة من الحكومة الأميركيّة بسبب حادثة كلاب التفتيش عن المخدّرات التي لاقت الوفد اللبناني عند وصوله إلى نيويورك عام ١٩٧٤ عندما أوكلت الجامعة العربيّة إلى فرنجيّة مهمّة التحدّث عن القضيّة الفلسطينيّة أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة. عتب فرنجيّة على السفير الأميركي لكنه سرعان ما غفر للحكومة الفعليّة فعلتها. ليس صحيحاً أنه حفظ ضغينة ضد أميركا بسبب ذلك. على العكس، إن السفير الأميركي آنذاك هو الذي مقت فرنجيّة وكان يشير إليه بأنه يحمل سمات زعيم محلّي صغير.
سابعاً، كان الرئيس اللبناني، في عهدي الحلو وفرنجيّة، كما كان كل زعماء الموارنة في «الحلف الثلاثي»، يحثّون الحكومة الأميركيّة على التدخّل لصالحهم وضرب المقاومة الفلسطينيّة في لبنان. هذه كانت ثابتة في العلاقة بين الحكم اللبناني (عبر أقطاب الموارنة وأدواتهم في طوائف أخرى، مثل مجيد أرسلان وفضل الله تلحوق، كما يرد في الوثائق) وبين الحكومة الأميركيّة.
ثامناً، كانت كل مساعدات الحكومة الأميركيّة تتمّ بعنوان دعم الجيش فيما كانت في الاجتماعات المغلقة صريحة في غايتها ضرب المقاومة (كمْ يذكّر الأمس باليوم)، وخدمة أمن العدوّ الإسرائيلي.
تاسعاً، كانت العلاقة بين النظام السوري، في حقبة تدخّله في لبنان، والحكومة الأميركيّة أوثق مما كُتب عنها، وكانت العلاقة بين النظام في الحقبة نفسها والاتحاد السوفياتي أسوأ مما كانت (في سنة التدخّل السوري عام ١٩٧٦). وكان النظام السوري يشكو من العقوبات السوفياتيّة ضدّه للحكومة الأميركيّة، طمعاً بدعم بديل منها، لكن حافظ الأسد شعر من تجربة السادات أن ضرب العلاقة مع السوفيات لن يؤدّي إلى كسب الكثير من المنافع السياسيّة.
عاشراً، كان دور الملك حسين في دعم ميليشيات اليمين الطائفي وفي حثّ الحكومة الأميركيّة على دعم التدخّل العسكري السوري في عام ١٩٧٦ أكبر بكثير مما كُتب أو ظنّ عن تلك المرحلة. كان الملك حسين «بحق وحقيق» عرّاب الميليشيات الإسرائيليّة في لبنان، ورسولها إلى الإدارة الأميركيّة، كما كان المُدافع عن حافظ الأسد.
حادي عشر، إن تصلّب فريق «الجبهة اللبنانيّة» و«القوّات اللبنانيّة» وسليمان فرنجيّة ورفضهم تقديم أية تنازلات كان بدفع من الحكومة الأميركيّة، وتوقّعاً منهم بالحصول على مساعدات عسكريّة أميركيّة أو تدخّل مباشر.
ثاني عشر، إن الأسطورة اللبنانيّة التي سرّبها فريق «الجبهة اللبنانيّة» وسليمان فرنجيّة شخصيّاً عن مهمّة دين براون (مبعوث الرئيس الأميركي جيرالد فورد) عن قوله إن السفن الأميركيّة ستنتظر المسيحيّين في لبنان في عرض البحر لنقلهم خارج لبنان كان كذبة. فالوثائق الموجودة تؤكّد أن مهمّة دين براون كانت من أجل تقوية تلك الميليشيات ونقل ضمانة أميركيّة بدعمها ولرفض هزيمتها في الحرب. كانت مهمّته عكس ما أشاع عنها الفريق اليميني، ربّما لأن الدعم الأميركي كان أقلّ مما يريد (كانوا يريدون تدخّلاً عسكريّاً مباشراً على غرار اجتياح ١٩٨٢). وقد سألتُ براون في سنوات تقاعده عن حكاية السفن لتهجير المسيحيّين فنفاها من أساسها.
ثالث عشر، عملت الحكومة الأميركيّة على دعم موقف الحكومة الأردنيّة واللبنانيّة بين العرب، للحفاظ على عدائهما نحو المقاومة الفلسطينيّة (يصف ستوكر ذلك بـ«التمنّع» عن اتخاذ مواقف موالية للفلسطينيّين ــــ ص. ١٥ ــــ أي أن سياسة المهادنة مع العدوّ من قبل الحكم اللبناني والأردني كان تتمتّع بحماية أميركيّة مباشرة).
رابع عشر، إن مسؤوليّة الحكومة الأميركيّة في إشعال الحرب الأهليّة مباشرة وغير مباشرة: غير مباشرة من حيث ترك صراعات الشرق الأوسط تستعر بعد حرب ١٩٧٣ لحماية إسرائيل، كما حلّل رشيد خالدي في كتابه «حياكة الأزمة: الحرب الباردة والسيطرة الأميركيّة» (ص. ١٣٤). لكن أطروحة خالدي تفترض أن تدخّل الحكومة الأميركيّة في «مسيرة السلام»، كان سيكون تدخّلاً خيّراً. أما المسؤوليّة المباشرة فهي التي ستلي في هذه السرديّة على حلقات، عن دعم ورعاية ميليشيات الموت الكتائبيّة ــ الشمعونيّة.
خامس عشر، خلافاً للنظرة التراجعيّة، لم تكن الحكومة الأميركيّة تنظر إلى الحرب الأهليّة بمنظار المسلم ضد المسيحي، بل كانت تنظر لها في سنتيْ ١٩٧٥ ــــ ١٩٧٦ نظرة أيديولوجيّة كصراع بين يمين ويسار، وكان زعماء الموارنة يستجدون الدعم الأميركي باسم ضرب المقاومة وضرب اليسار في لبنان.
سادس عشر، قامت مخابرات الجيش اللبنانيّة بأعمال مُشينة نُسبت خطأ إلى المقاومة الفلسطينيّة لزرع الشقاق بين الأهالي في الجنوب والمقاومة الفلسطينيّة.
هذا في العموميّات، لكن في التفاصيل فإن الملفّ مليء بما يُقبّح التاريخ اللبناني المعاصر ـــــ على قباحته.

(الحلقة الثانية السبت المقبل)




تقويض اليسار ومتطوعو «الكتائب»

تظهر التقارير المدى الذي تعاونت فيه حكومة لبنان مع الحكومة الأميركيّة على مواجهة اليسار في لبنان. فعندما طلب شارل حلو مساعدات اقتصاديّة من أميركا، قال إنها ضروريّة لتقويض دعم اليسار بين الجماهير في لبنان (ص. ٢٨). لكن السفير الأميركي طالب الحلو بالمزيد من الاجراءات القاسية ضد اليسار، ودعاه لحث التعاون بين الأمن العام اللبناني وبين المخابرات الأميركيّة في هذا المجال. بدا كأن المساعدات الاقتصاديّة كانت مرهونة بضرب اليسار (والمقاومة في ما بعد). وعند اندلاع حرب ١٩٦٧، كان كل همّ شارل حلو أن العرب والبعض في لبنان يمكن أن يضغطوا على الحكومة اللبنانيّة من أجل القيام بعمل عسكري ضد العدوّ الإسرائيلي. لكن حلو عارض ذلك، وقد أوردت «نيويورك تايمز» في حينه أن رشيد كرامي أعطى أمراً لقائد الجيش إميل بستاني لضرب إسرائيل تضامناً مع المجهود الحرب العربي، لكن بستاني تجاهل قراره.
ولعب حزب الكتائب دوراً نشطاً في استمالة الحكومة الأميركيّة إليه، لكن التقارير تذكر بعضاً من نشاطه من دون التحقّق من المعلومات التي كان الحزب يقدّمها. فالحزب زعم أنه واجه تظاهرة ناصريّة ضد السياسة الأميركيّة وأنه قتل منهم ١٥ متظاهراً، كما أنه دلّل على تطوّعه بنشر ميليشيا من الكتائب في وادي أبو جميل لحماية الجالية اليهوديّة هناك (كان اليهود في لبنان يرمون بثقلهم الانتخابي لصالح حزب الكتائب اللبنانيّة إلى درجة أن بيار الجميّل نال ١٩٢ صوتاً يهوديّاً من أصل ١٩٤ صوتا في أقلام الاقتراع ٢٨٠ ــــ ٢٨٥ في بيروت الأولى، كما نال ٢٢٢ صوتاً يهوديّاً من اصل ٢٣١ في أقلام الاقتراع ٢٦٦ ــــ ٢٧٠ في بيروت الأولى ايضاً في انتخابات ١٩٧٢ (راجع، الأمن العام اللبناني، «الانتخابات النيابيّة، ١٩٧٢: بالأرقام والنسب المئويّة»، ص. ٢٦ و٢٧).





التمديد لشهاب

كان دور الحكومة الأميركيّة بارزاً في انتخابات الرئاسة في عام ١٩٦٤، وقدم كثيرون من الساسة طلبات لتدخّل أميركي لاقناع فؤاد شهاب بالتمديد. وكان للولايات المتحدة دالة على شهاب، المحسوب على الفرنسيّين (ص. ٢٧). وفيما كانت الجامعة العربيّة تقدّم تمويلاً للبنان من أجل اقتناء سلاح دفاعي بوجه العدوّ الإسرائيلي، كان ساسة لبنان (كما اليوم) يعرقلون الخطط الجديّة لاقتناء سلاح رادع ضد العدوّ. حتى شارل حلو رفض في أحاديث مع السفير الأميركي خطط التسليح العربيّة، كما أن السفير الأميركي أبلغه أن طائرات «إف ٨» التي أراد (بعض) لبنان اقتناءها مطلوبة للحرب في فييتنام.