جَمَع مصرف لبنان (حتى الآن) نحو 7 مليارات دولار من العملات الاجنبية من المصارف. هذا المبلغ دخل الى ميزانيته بهدف تعزيز احتياطياته بالعملات الأجنبية، التي استنزفها في السنتين الماضيتين دفاعاً عن سياسة التثبيت النقدي، والتي حذّرت بعثة صندوق النقد والبنك الدوليين المشتركة من أنها (أي الاحتياطيات) باتت سلبية جداً وخطيرة. تحرّك مصرف لبنان انطلاقاً من أهداف نقدية بحتة، ووضع آلية مكلفة ومغرية للمصارف من أجل جمع ما أمكن من الدولارات المودعة محلياً أو في الخارج، سمّاها هندسة مالية "مبتكرة"، إلا أن بعض المراقبين في السوق يسمونها "ماكرة". هذه الهندسة قضت أن يشتري مصرف لبنان، من المصارف، سندات خزينة بالليرة تحملها، بسعر إصدارها، مهما كان تاريخ استحقاقها (بعض الاستحقاقات يمتد إلى أكثر من 15 سنة)، وهو دفع للمصارف، فوراً، نصف قيمة الأرباح التي كانت ستجنيها من السندات على مدى السنوات المقبلة (فترات الاستحقاق). في المقابل، اشترط على المصارف أن تقوم بمهمة واحدة، هي استقطاب الدولارات من الخارج، سواء من فروعها الخارجية أو من مودعين جدد أو من زبائن جدد، وأن تستعمل هذه الدولارات حصراً في شراء سندات يوروبوندز (سندات دين بالدولار يحملها مصرف لبنان في محفظته) أو الاكتتاب بشهادات إيداع يصدرها مصرف لبنان خصيصاً لغاية امتصاص الدولارات. كذلك تضمن الاتفاق بين مصرف لبنان والمصارف أن تكون هذه السيولة جاهزة عند طلبها، ولا سيما في حالات حاجتها للدولارات.
حساب الحكومة لدى مصرف لبنان متخم بفائض يفوق 11 ألف مليار ليرة
خلال الاسابيع الأولى على بدء تنفيذ هذه الهندسات، توافرت معلومات عن اكتفاء مصرف لبنان بحصيلة جمع 3 مليارات دولار. يومها كشف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن نتائج هذه الهندسات في مؤتمر الاقتصاد الاغترابي في منتصف تموز الماضي، مشيراً إلى أن هذه العملية (أي جمع 3 مليارات دولار) حققت أرباحاً فورية بقيمة ملياري دولار، وجرى تقاسمها مناصفة، مليار دولار للمصارف ومثلها لمصرف لبنان.
ساد اعتقاد أن هذه العمليات انتهت في تلك الفترة، وخصوصاً أن مصرف لبنان أصدر تعميماً يفرض على المصارف أن تضع هذه الأرباح في القسم الثاني من رأس مالها، كمؤونات لمواجهة أعباء تطبيق معيار المحاسبة الدولي IFRS9، الذي يفرض عليها تكوين مؤونات مقابل محفظة تسليفاتها وفق مستويات المخاطر في هذه المحفظة، على أنه يمكن تحرير هذه المؤونات الفائضة عن متطلبات المعيار الدولي بعد تقديم طلب إلى مصرف لبنان.
في ذلك الوقت، بدأت المصارف تسوّق أن الهدف من الهندسة كان مساعدة المصارف المتوسطة والصغيرة على تلبية شروط المعيار الدولي للمحاسبة، وجمع مبالغ بالدولار لتعزيز احتياطيات مصرف لبنان، ما أسهم في تكريس اقتناع بأن الحاجة لم تعد تبرر تنفيذ عمليات تستند إلى هذه الهندسة. إلا أنه تبيّن لاحقاً أن العمليات استمرّت لشهر إضافي حتى أصبحت الحصيلة النهائية على الشكل الآتي: جَمَعَ مصرف لبنان 7 مليارات دولار، وحققت المصارف أرباحاً تزيد على ملياري دولار ومثلها لمصرف لبنان.
ما حصل شكّل إشارة واضحة الى أن مصرف لبنان سيواصل اعتماد هذه الهندسة ما دام يرغب في جمع دولارات لديه، وهي، بالتالي، ليست مرتبطة بفترة زمنية محدّدة. العمليات التي نفذت خلال الشهرين الماضيين أتاحت لمصرف لبنان تعزيز احتياطياته بالعملات الأجنبية بمبلغ 7 مليارات دولار، وجعلته قادراً على استيلاد المزيد من «الثقة» التي تمثّل «غذاء» النظام المالي في لبنان.
تجري التحضيرات في وزارة المال لامتصاص السيولة بالليرة بسندات دين تمتد الى 30 سنة

هذه النتائج ليست الحصيلة الوحيدة، إذ إن قيام مصرف لبنان بشراء سندات الخزينة من المصارف، خَلَقَ سيولة هائلة بالليرة اللبنانية لدى المصارف، وتحوّلت هذه السيولة إلى أعباء على المصارف كونها سيولة بالليرة اللبنانية لا يمكن توظيفها إلا في السوق المحلية، خلافاً لإمكانية توظيف أي سيولة بالدولار في الخارج. بحسب المعطيات المتداولة في السوق، فإن مصرف لبنان قرّر أن يمارس ضغوطاً على وزارة المال من أجل إصدار سندات خزينة بالليرة لفترات طويلة، من دون أن تكون مرتبطة بتمويل العجز. إلا أن وزير المال علي حسن خليل يجد صعوبة في تبرير إصدار مثل هذه السندات، إذ إن حساب الحكومة لدى مصرف لبنان متخم بفائض يفوق 11 ألف مليار ليرة، أي إن وزارة المال استدانت هذا المبلغ من المصارف من دون أن تكون بحاجة اليه سوى لامتصاص السيولة نيابة عن مصرف لبنان. بحسب المعلومات، يستمر النقاش بين وزارة المال ومصرف لبنان، إذ إن سلامة أبلغ خليل أن الحاجة متصلة بتعقيم السيولة الناتجة من الهندسة المنفذة لجمع الدولارات واستقطاب ودائع وتوظيفات بالعملات الأجنبية «الطازجة». لذا، بدأت التحضيرات لإصدار سندات خزينة بآجال طويلة تصل إلى 30 سنة. مصادر مطلعة تقول إن السندات التي ستصدرها الدولة اللبنانية لن تكون ضمن شريحة واحدة، بل على أكثر من شريحة، وغالبيتها ستكون على المدى الطويل، وستتراوح بين 10 سنوات و30 سنة، على أن تكون فوائدها متناسبة مع هذه المدة.
طبعاً، إن وجود هذه السيولة الإضافية التي تقدّر بنحو 10 آلاف مليار ليرة، لن يخلق تنافساً بين المصارف على توظيفها في سندات الخزينة، وبالتالي لن يكون هناك تنافس يؤدي بأي حال من الأحوال الى خفض معدلات الفائدة، بل إن ظروف هذا الإصدار وضغوط مصرف لبنان على وزارة لامتصاص هذه السيولة، سيكونان عاملاً أساسياً لترسية معدلات فائدة سوقية تناسب سياسة دعم أرباح المصارف، التي باتت تحتل أولوية تفوق الحاجة الى تخفيض أو ضبط كلفة خدمة الدين العام، علماً بأن الاجراءات الرامية الى إعادة تكوين احتياطيات مصرف لبنان بالدولار ساهمت في رفع سعر الفائدة على الدولار محلياً، ما يعني أن سعر الفائدة على الليرة سيرتفع على الرغم من فائض السيولة، وذلك بهدف المحافظة على الهامش بين السعرين.
هكذا، ورغم كل الأرباح الطائلة التي جنتها المصارف خلال أقل من شهرين، إلا أن نتائج هذه الهندسة ساهمت في المزيد من النفخ في الدين العام وبكلفة خدمته. وتظهر هذه الهندسة أن اللبنانيين، مجدداً، سيسددون من المال العام كلفة هذه الهندسات، وأنهم يموّلون أرباح المصارف الفاحشة. فالنتيجة بالنسبة إلى المصارف على الشكل الآتي: تحقيق أرباح فورية من بيع سندات الخزينة. تحقيق أرباح مستقبلية من شراء سندات يوروبوندز وشهادت إيداع مصرف لبنان. تحقيق أرباح مسقبلية من إصدار سندات خزينة بالليرة لامتصاص السيولة. تلبية شروط المحاسبة الدولية لجهة معيار IFRS9 الذي يفرض على المصارف تكوين مؤونات من أرباحها مقابل محفظة تسليفاتها.




ديمومة ربحية المصارف

وجّهت «الأخبار» سؤالاً إلى عضو في مجلس إدارة جمعية المصارف عن الأرباح التي حققتها المصارف نتيجة الهندسة المالية التي نفذها مصرف لبنان خلال الشهرين الماضيين، فأجاب بأن الأرباح المحققة كانت كبيرة إلا أنها «تضرّ ربحية المصارف على المدى المتوسط والبعيد، إذ إن المصارف حققت اليوم أرباحاً كانت ستحققها خلال السنوات المقبلة». هذه الإجابة كانت قبل الحديث عن إصدار سندات خزينة لامتصاص السيولة بالليرة الناتجة من الهندسة المنفذة، إذ إن الإصدار جاء ليلبي شروط ديمومة ربحية المصارف، وبالتالي فإن الضرر الوحيد المتاح هو التخمة من الأرباح!