تقارب لا يرقى إلى اتفاق، لكنه قد يعيد ضبط إيقاع الاتصالات الروسية ــ الأميركية لتحريك عجلة الحلول السياسية، ضمن سلة متكاملة، تمتد من سوريا إلى العراق واليمن وليبيا... وصولاً إلى أوكرانيا.هذا ما يمكن قراءته في البراغماتية التي اتسمت بها محادثات وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأميركي جون كيري، في جنيف أمس، والتي أتت في خضم تطورات ميدانية، أبرزها التدخل التركي في الشمال السوري، واللقاءات التي قام بها الوزير الأميركي مع الخليجيين وزيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن لتركيا.
التقارب قد يؤسس لاتفاق مازال معلقاً، وربما وشيك، بانتظار بتّ شيطان التفاصيل على مستوى الخبراء، ويبدو أن من أبرز أسسه التوافق على العودة الى نظام وقف العمليات العدائية، وفك الارتباط بين المجموعات المسلحة و»جبهة النصرة»، وضمان وحدة سوريا في إطار الحل المستقبلي، وتوفير مشاركة شاملة لكل الأطياف السورية في التسوية السياسية، في ظل متغير جديد يتمثل في تخلّ ضمني من الجانب الأميركي عن مطلب تنحي الرئيس بشار الأسد، وهي العبارة التي غابت عن تصريحات كيري أمس، وهو ما شجّع ربما لافروف على إمرار رسالة مفادها أن «الأطراف التي سعت الى استخدام القوة العسكرية لإسقاط الأسد، ينبغي أن تدرك أنه لا ينبغي الوقوع في الحفرة ذاتها التي شهدناها سابقاً في العراق وليبيا»


لم يكسر لقاء الساعات العشر الرقم القياسي لمدة الاجتماعات الطويلة بين وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأميركي جون كيري.
تلك كانت الملاحظة الأولى التي سجلها الوزير الروسي، خلال مؤتمره الصحافي المشترك مع نظيره الأميركي، بعد ساعات انتظار طويلة ارتفع فيها منسوب التوقعات بشأن التوصل الى اتفاق حاسم بين واشنطن وموسكو لاستئناف العمل بنظام وقف الأعمال العدائية، وبطبيعة الحال، العودة الى مسار جنيف التفاوضي.
الوزيران لم يكونا حاسمين في الحديث عن اتفاق، لا بل إن الحذر كان سيّد الموقف، وهو ما عبّر عنه كيري بشكل صريح حين نبّه إلى «أننا لا نريد الإدلاء بتصريحات فارغة ومن دون تأثير لأن ذلك يمكن أن تكون له نتائج عكسية»، وإن كان الوزير الأميركي قد تعمّد الربط بين هذا السلوك المتحفظ، بالسلوك ذاته الذي اتسمت به تصريحاته خلال المفاوضات المعقدة لتسوية الملف النووي الإيراني، التي وصلت في نهاية المطاف الى «خواتيمها السعيدة» بتوقيع اتفاقية فيينا.
قد يندرج الاجتماع الماراثوني في إطار ترتيبات تستبق انتهاء عهد أوباما

جانب الحذر الآخر، تمثل في تأكيد كيري ضرورة مناقشة التفاصيل الفنية من جانب الخبراء الروس والأميركيين، قبل الحديث عن أي اتفاقية، وهو ما أكده الوزير الروسي، بدوره، الذي أشار الى أن الاتصالات ستتكثف على خط مركز المصالحة الروسي في حميميم ومراكز المراقبة للضباط الأميركيين في الأردن.
وبرغم الحذر والتحفظ، إلا أن لقاء الساعات العشر عكس تقارباً «براغماتياً» بين كيري ولافروف، يتجاوز التوافق الدبلوماسي العام حول ضرورة العمل بنظام وقف الأعمال العدائية، والتشديد على وحدانية الحل السياسي.
الأهم من ذلك، أن اللقاء بين الرجلين لم يشمل سوريا فحسب، بل تناول، كما قالا، الأوضاع في العراق واليمن وليبيا، وحتى أوكرانيا، ما يشير الى أن الاجتماع الماراثوني أتى في إطار ترتيبات شاملة يسعى الجانبان إلى التوصل إليها مع بدء العد التنازلي لعهد الرئيس باراك أوباما، تجاه الكثير من القضايا الخلافية، وفي القلب منها الملف السوري، ولا سيما أن لقاء كيري ــ لافروف أعقب حراكاً دبلوماسياً أميركياً تمثل في زيارتين مثيرتين للانتباه في توقيتهما، الأولى لكيري إلى الخليج، والثانية لنائب الرئيس الأميركي جو بايدن الى تركيا.
التقارب البراغماتي بين كيري ولافروف يمكن رصده من خلال الموقف المشترك الذي عبر عنه الوزيران، وإن بعبارات مختلفة، إزاء العديد من القضايا الجوهرية، التي لا تزال تنتظر مناقشة التفاصيل التقنية بين الخبراء، من الجانبين، خلال «بضعة أسابيع».
أولى تلك القضايا، الموقف من «فك الارتباط» بين المجموعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية، ولا سيما «جبهة النصرة». الوزير الروسي رأى أن فك الارتباط يمثل خطوة أساسية، لا يمكن من دونها تفعيل نظام وقف الأعمال العدائية. وقال: «المشكلة تكمن في أن بعض الفصائل التي تتعامل مع التحالف الدولي والولايات المتحدة، تتعاون بدورها مع جبهة النصرة، وتتشارك معها في عمليات مشتركة. ومن دون فك الارتباط بين تلك المجموعات والإرهابيين لا أرى أي فرصة لضمان وقف إطلاق نار ثابت ومستدام». وشدد على أن «فك الارتباط ليس سهلاً، لأن جبهة النصرة تغيّر اسمها وتخلق مظلات لتتخفى تحتها، وهذا الأمر نتابعه بعناية، ويحتاج الى بحث دقيق»، مضيفاً «نحن نقدم المعلومات للأصدقاء الأميركيين بشأن جبهة النصرة والتنظيمات التي تدخل ضمن هيكلها. ونحن على ثقة بأن زملاءنا الأميركيين سيتفهمون تحليلنا».
من جهته، عبّر كيري عن موقف أكثر تفهماً للمقاربة الروسية حين أشار إلى أن «جبهة النصرة» تتشارك السيطرة على الكثير من مناطق سيطرة المعارضة السورية المسلحة في سوريا، وأنها «تتفوق في سيطرتها على بعض المناطق، وذلك لا يساهم في تحسين الأوضاع»، مشدداً على أن تغيير «جبهة النصرة» اسمها «لا يغيّر من جوهرها وصفتها» باعتبارها «جزءاً من تنظيم القاعدة»، وبالتالي فإن استهدافها «مشروع».
وأضاف «إننا على تواصل مع زملائنا الروس للتعامل مع هذه المسألة»، مشيراً إلى أن «فك الارتباط» يتطلب بذل جهود من قبل بعض «الدول الإقليمية التي يمكن أن تؤثر على فصائل المعارضة»، ومشدداً على أن «لدينا قدرة على الاشتباك ضد جبهة النصرة، مثلما نشتبك مع داعش وسنعمل للتصدي لكل المخاطر التي تهدد الولايات المتحدة».
نقطة التوافق الثانية كانت ضرورة إيصال المساعدات الإنسانية الى كل المدن السورية، وهي ما أكدها كيري بقوله إنه «ينبغي ترتيب الاتصالات لنرى استئنافاً واضحاً لعمليات إيصال المساعدات إلى جميع المناطق النائية والمحاصرة، بما في ذلك حلب»، مضيفاً أنه «إذا كان بإمكاننا التوصل الى تحقيق كل هذه الأهداف ووقف كل الأعمال العدائية فستكون لنا مهمة كبيرة في استكمال العملية السياسية»، فيما أكد الوزير الروسي أن «الحديث عن المساعدات الإنسانية لم يقتصر على حلب، وإنما تطرق الى ما حصل في منبج والحسكة وغيرهما من المدن والبلدات السورية».
كيري: فك الارتباط يتطلب بذل جهود من قبل بعض الدول الإقليمية

في العموم، لخّص الوزير الروسي المقاربة الجديدة ــ القديمة لإدارة الملف السوري عبر التكامل بين الأهداف الجزئية والهدف العام، وهو إنهاء الصراع. وعلى هذا الأساس، فقد شدد لافروف على أنه «لا ينبغي أن ننتظر هدوء الوضع مئة في المئة لكي نتمكن من إيصال المساعدات الإنسانية ودفع الفرقاء السوريين الى الجلوس حول طاولة المفاوضات»، وموضحاً أن وقف العمليات العدائية يساهم من دون شك في دفع عجلة المفاوضات، التي يمكن بدورها أن تسهم في تثبيت وقف إطلاق النار.
والخلاصة التي خرج بها لافروف وكيري أن ثمة قدراً واضحاً من الوضوح قد تبدّى بعد هذا اللقاء، وأن هناك تقدماً في بعض الخطوات التي من شأنها تقريب وجهات النظر، بانتظار بتّ التفاصيل من جانب الخبراء من كلا الجانبين.
وبانتظار تحقق ذلك، فإن لافروف حرص على توجيه الكثير من الرسائل السياسية. أولى تلك الرسائل مرتبطة بتسوية داريا، التي رأى فيها نموذجاً يمكن تعميمه في مناطق أخرى، كاشفاً النقاب عن أن مركز حميميم «أبلغنا أنّ ثمة منطقة أخرى في سوريا مهتمة بتكرار هذه التجربة من خلال وساطة روسيا الفدرالية».
وفي ما بدا إشارة الى الاشتباك الجوي السوري ــ الأميركي في أجواء الحسكة، قال لافروف إنه «ينبغي على الطائرات أن تعمل ضد داعش وجبهة النصرة، وهذا ما توصلنا إليه من تفاهمات محددة».
كما بدا لافروف متحفظاً إزاء التدخل التركي في الشمال السوري، إذ قال إن ثمة أطرافاً عدّة تتدخل عسكرياً من دون موافقة القيادة السورية، مذكّراً بأن تلك الموافقة «ممنوحة فقط للقوات الروسية»، ومع ذلك فقد أشار إلى أن الحكومة السورية «تنتهج موقفاً براغماتياً وهو التعامل مع كل قوة تكافح الإرهاب، ولكن بشرط الاتفاق على كل هذه الأمور». وأضاف «إذا كان البعض قد استخدم القوة لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، فعلى الكل أن يدرك اليوم أنه لا ينبغي الوقوع في الحفرة ذاتها التي شهدناها سابقاً في العراق وليبيا».
رسالة أخرى وجهها لافروف الى أكراد سوريا، فشدد على أن «ما ناقشناه مع الجانب الأميركي هو استئناف العملية السياسية التي يجب أن تشارك فيها كل القوى السورية، ولا سيما الأكراد، الذين ينبغي أن يكونوا جزءاً من الحل، وألا يكونوا عاملاً يمكن استخدامه لتقسيم سوريا».
أما رسالة كيري إلى الاكراد فكانت مختلفة في شكلها ومضمونها... وهي ببساطة التشديد على «وحدة سوريا» بما يعنيه ذلك من عدم تبنّ لأي «مبادرة كردية استقلالية»، مع تنصله من الإجابة على سؤال حول ما إذا كان الدعم الاميركي للتدخل التركي في جرابلس ومطالبة «قوات سوريا الديموقراطية» بالانسحاب إلى شرقي نهرا الفرات مؤشراً على تخلي الولايات المتحدة عن دعم الحليف الكردي!