قبل ليلة الانقلاب الفاشل بنحو شهر، توضحت لدى الرئيس رجب طيب أردوغان الصورة الحقيقية لمآلات الواقع التركي في ظل السياسات التي كان ينتهجها، وخاصة بعد إسقاط القاذفة الروسية (27 تشرين الثاني الماضي) والعقوبات التي فرضتها موسكو على بلاده. فمن الخضّات الأمنية الداخلية، إلى تكسّر الخطوط الحمراء في سوريا تباعاً، مروراً بالمماطلة الأوروبية في تنفيذ ما يرتّبه اتفاق اللاجئين من التزامات، أصبحت إعادة الاستقرار ضرورة ملحّة، منطلقها العودة إلى موسكو، التي ستحمل انفراجاً اقتصادياً «ضرورياً» للبلد المأزوم.التطبيع مع روسيا بدأ مع رسالة اعتذار أردوغان أواخر حزيران الماضي، ليأتي الانقلاب الفاشل ومبادرة نظيره فلاديمير بوتين، عبر اتصال لتأكيد الدعم في وجه الانقلابيين، ويفتح فرصة حقيقية للعودة على مسار عودة العلاقات، تكلّلت بلقاء الرئيسين أمس، في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، في أول زيارة خارجية لأردوغان بعد الانقلاب. اللقاء الذي حمل طابعاً اقتصادياً في ظل إعلان بدء العمل لعودة الاستثمارات والتجارة بين البلدين، تضمّن أيضاً رسائل مهمة إلى الأوروبيين والأميركيين الذين «خذلوا الديموقراطية»، تلوّح إلى إمكانية تقارب حقيقي مع عدو «حلف شمال الأطلسي» الأول.
العمل على مشروع «السيل التركي» سيستكمل في أقرب وقت

أما على المستوى الإقليمي، فيُتوقّع أن يعيد التطبيع حصر الخلافات، فسحاً في المجال للاستمرار في التعاون الاقتصادي كما كان الوضع قبل إسقاط القاذفة الروسية، حين كانت تركيا تتمتع بعلاقات اقتصادية جيدة مع روسيا ــ كما إيران ــ ويختلفان في الميدان السوري إلى أبعد حدّ. وبرغم التعويل على أن يفتح التقارب الأخير أبواباً جديدة للحل، فإن خلافات واسعة لا تزال قائمة بين البلدين، وفق ما أوضح بوتين، خلال مؤتمر صحافي عقب الجولة الأولى من المحادثات مع أردوغان، مضيفاً أن أنقرة وموسكو متفقتان على ضرورة مكافحة الإرهاب وإيجاد حل للأزمة، رغم «المقاربات غير المتطابقة». كذلك أكّد الرئيسان أن المسألة السورية ستُبحَث خلال اجتماع منفصل بمشاركة وزيري الخارجية وممثلي الاستخبارات.
كذلك، جدد بوتين إدانته لمحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، معرباً عن أمله أن «تتمكن تركيا بقيادة أردوغان من تجاوز آثار تلك المحنة وتثبيت النظام والشرعية الدستورية»، ومذكّراً بكونه أول الرؤساء الذين أعربوا عن دعمهم للقيادة التركية في وجه المحاولة الانقلابية.
ورحّب بالزيارة التي «تأتي في ظل الظروف السياسية الداخلية المعقدة التي تعيشها تركيا»، موضحاً أنها تعبّر عن «الإرادة المشتركة لإعادة الحوار نحو تطبيع العلاقات». وأوضح أن روسيا ستبدأ برفع القيود المفروضة على تركيا على مراحل، لافتاً إلى أن «النقطة الأهم تكمن في استئناف التعاون في مجال الطاقة، الأمر الذي يتطلب خطوات سياسية فعالة نحو تحقيق تلك المشاريع»، وأضاف أن «الجانب التركي قد أخذ بالفعل عدداً من الخطوات في هذا المجال»، مشيراً إلى «قرب استئناف رحلات (شارتر) إلى تركيا، والسماح لشركات الإنشاءات التركية بالعودة إلى السوق الروسية». وأعرب عن ثقته «بالآفاق الواعدة» باستئناف التعاون في مجال السياحة، في ظل تقديم الجانب التركي الضمانات الضرورية بشأن أمن المواطنين الروس. وأوضح أن «مباحثات اليوم ستتبعها اجتماعات ضمن إطار موسع بمشاركة الوزراء ورؤساء الهيئات والشركات الكبرى، لتحديد جدول الخطوات والمهمات الأولية لاستعادة العلاقات المتعددة الجوانب».
من جهته، لفت الرئيس التركي إلى أنّ روسيا ستُمنَح وضعية استثمار استراتيجي في محطة «أقويو» النووية، إضافة إلى رفع مستوى التعاون في مجال الصناعات الدفاعية، وإنشاء الصندوق التركي ــ الروسي للاستثمارات المشتركة، مشيراً إلى أن «هدفنا قبل الأزمة كان الوصول إلى حجم تبادل تجاري يبلغ نحو 100 مليار دولار، ونحن الآن عازمون على السير باتجاه هذا الهدف». وأوضح أن «العمل على مشروع (السيل التركي) سيستكمل في أقرب وقت، بعد إجراء الجانبين لمراجعة شاملة ودقيقة». وبدوره أوضح وزير الاقتصاد الروسي، ألكسي أولياكييف، أن السوق الروسية ستكون مفتوحة بحلول نهاية العام الجاري أمام المنتجات والأغذية التركية، مشيراً إلى ضرورة إجراء «تقويم للجودة» لتلك المنتجات قبل دخولها.
على الصعيد الأوروبي، رحّبت برلين على لسان وزير الخارجية فرانك فالتر شتاينماير، بالتقارب الروسي التركي الذي «لن يؤثّر بالعلاقة مع حلف شمال الأطلسي»، وفي تصريحات لصحيفة «بيلد» الألمانية، رأى أنه «لا يعتقد أن العلاقة بين البلدين ستصبح وثيقة بالدرجة التي يمكن أن تقدم فيها روسيا بديلاً لتركيا من الشراكة الأمنية مع الناتو». وهو ما عبّرت عنه وزيرة الدفاع أورزولا فون ديرلاين، خلال تفقدها لقوات الجيش الألماني في ولاية هيسن، بقولها: «ليس لدي شك في أن تركيا تعلم تماماً إلى أي جانب تنتمي».
وفي سياق آخر، رأى وزير العدل التركي بكر بوزداغ، في حديث لوكالة «الأناضول» أن الولايات المتحدة «قد تضحّي بعلاقاتها مع تركيا من أجل إرهابي» في إشارة إلى الداعية فتح الله غولن، موضحاً أن بلاده «لم تتسلّم حتى هذه اللحظة أي ردّ رسمي من واشنطن» بهذا الشأن.