نعم، في لحظة من لحظات التاريخ المصري والعربي القريب، شكّل باسم يوسف حالة استثنائيّة: في النقد السياسي وخفّة الظل والسخرية والجرأة وتقنيات التواصل، والمسرح واستوديو التلفزيون، وفنون الكوميديا والهجاء السياسي وصياغة النكت والهزء من الرجعيّة الدينيّة والعسكريّة في السلطة. لكن حين ننظر اليوم إلى أين وصلت الظاهرة، بعد إقصاء هذا الكوميدي من الميدان، وتراجعه إلى القاعدة الخلفيّة في المنفى الأميركي... نلاحظ مؤشرات مقلقة عدّة: لم تبق له مؤهلات كثيرة، غير البراغماتيّة الليبراليّة، والتعالي عن الواقع بداعي نقده وإدانته، والتماهي مع النموذج الاميركي، مرجعه، في اللغة والقيم والوعي... وصولاً إلى الانسلاخ عن الواقع الذي طالما ادعى الانتماء اليه، والسعي الى تغييره. النخب في معظمها، سرعان ما تستبدل بمشروع التغيير العتيد الذي حملته أول الطريق، امتيازاتها وموقعها ومصلحتها وخلاصها الفردي. هكذا يتغيّر خطابها بسحر ساحر، ونحتار في تحديد إذا ما كانت «معانا» أم «مع التانيين»؟هذا ما لمسته شخصيّاً وأنا اتفرّج على باسم يوسف في «بيت الدين» أول من أمس. عدا احتقاره الجمهور اللبناني والعربي في لبنان، إذ لم يبذل أي جهد فني فكري ابداعي لغوايته وتقديم الجديد له، بل اجترّ مواد أرشيفية من «البرنامج» أو الميدان، وحكايات قديمة فات عليها الزمن، بعدما تغيّرت المعطيات وازداد الصراع تعقيداً... وعدا فقدانه الكثير من خفة ظله وقدرته على الابتكار واقتناص اللحظة، فكأنّه يقلّد «باسم يوسف» الذي عرفناه وأحببناه... وعدا انّه بدا لنا «مهرّج السلطان»، يمحو عيوب البيك بأن يضحكنا عليها. وتكاد تقتصر «إضافته» الابداعيّة في أمسية بيت الدين على مناغشة وليد جنبلاط، الزعيم الاقطاعي للمنطقة التي تستضيفه، والسخرية من رولا يموت بعد كليبها البليد، والتريقة على مشاكل لبنان بسطحية. تريقة هي في النهاية تغطية على النظام الفاسد المافيوي عبر «تفريغ» الحقد عليه ببعض التهريج (تحيّة هنا إلى أستاذنا الراحل سعد الله ونّوس الذي أسهب في تناول مسرح التحريض ومسرح التفريغ)...عدا كل ذلك، فإن أخطر ما لمسته لدى باسم يوسف هو تجسيده النموذجي لـ «العربي النظيف». هذا المسخ المبرمج لإجهاض مشاريعنا التقدميّة، والمكلّف من قبل الأخ الأكبر بتمثيلنا وحمل قضايانا الى الرأي العام الغربي، وبالتالي التأثير على الرأي العام المحلي، على قاعدة «كل شي فرنجي برنجي»، يتنكّر غالباً في مظهر حضاري وتقدّمي وانسانوي. يتلقفه الغرب، ثم يعيد انتاجه عبر تقنيات احتواء معروفة: هذا ما حدث لمثقفين وفنانين وأكاديميين وإعلاميين وتقنيين واخصائيين وباحثين وسياسيين من العالم العربي. يجري احتضانهم و«تدريبهم» (تحيّة إلى «فرسان إنجي_أوز» و«فريدوم هاوس»)، ومساعدتهم على «الوصول» و«النجاح»، ومنحهم الامتيازات والاعتراف والشرعيّة والتكريس.
أداء باسم يوسف وخطابه في بيت الدين، يسلطان الضوء على أسلوب بات ينتشر لدى بعض النخب العربية ممن يرتبط وعيهم المستلب أو مصالحهم أو خياراتهم الايديولوجيّة بأميركا أو الغرب (المقصود بالغرب طبعاً: الحكومات والسياسات الاستعمارية والنخب المهيمنة المتحكمة بالاعلام والتوزيع والانتاج وصناعة الوعي ومراكز البحث ودوائر القرار والتحكّم الاستراتيجي، على اختلافها الخ)... هؤلاء الذين اختصرهم بالعربي النظيف تماهوا مع الجلاد وثقافته ووعيه وخطابه بشكل مدهش، ومن موقعهم المستلب باتوا يبحثون عن شعارات وعناوين عريضة «وطنيّة» أو «تقدميّة» أو«ليبراليّة»، إلخ لتبرير خطابهم ووجودهم، واحتلال الفضاء المطلبي العربي، حسبما تنصّ عقودهم المباشرة، أو غير المنظورة، مع الأخ الاكبر.
اسكتشات تقوم على تقنية خبيثة للدفاع عن أميركا وتبرئتها من تهم التسلّط الاستعماري على شعوبنا

اسكتشات باسم يوسف الساخرة، تقوم على تقنية خبيثة للدفاع عن أميركا وتنزيهها وتبرئتها من جرائمها، ومن تهم التسلّط الاستعماري على شعوبنا وثرواتنا وحقنا في تقرير مصيرنا واستعادة حقوقنا. لنسمّها تقنيّة الانزياح والتعميم. انه يحرّف الخطاب المعادي لأميركا، إذ يقدّمه طوال الوقت بشكله الكاريكاتوري الاختزالي، وبصفته خطاباً ظلامياً عشوائيّاً مريضاً وسطحياً. كيف ذلك؟ يكفي تسليط الضوء على الغوغاء (الاخونجية وغيرهم) التي تجترّ خطاباً أجوف وغيبيّاً وغير متماسك، في عدائها لاستعمار تجهل خطورته ولا تعرف لماذا تقارعه لفظيّاً. ثم يأتي التعميم ليكمل المهمّة: كل من ينتقد أميركا هو في النهاية، مثل هذا الشيخ الأعور الذي عرض باسم يوسف صوره، مهووس «نظريّة المؤامرة». بربّكم من تفضلون: أهذا الداعية الظلامي الخطير الذي لا يعرف ما يقول، أم باسم الذكي الأنيق الذي يمثل القيم الاميركية ويدافع عن الحضارة التعددية والتنوير؟
سخرية باسم يوسف من «أعداء أمريكا» تستند طبعاً إلى «الوعي الغيبي» والعصبيات، و«نظرية المؤامرة» الطاغية في مجتمعاتنا للأسف، عندما نتناول «عدوّ الخارج». والأنظمة الاستبداديّة نفسها تستعمل هذه الفزاعة. فنّاننا يقدّم هذه النماذج ويسخر منها (بحق طبعاً: المؤامرة الصهيو اميركية - الانجلو ماسونيّة، والى ما هنالك من هراء أجوف...)، وفي معرض السخرية يعمّم الكاريكاتور، ويفرضه مرجعاً في نظر المتلقّي السطحي الذي يكفيه الشعار كي يفشّ خلقه (أي جزء مهمّ من جمهوره، بما يضمّ أيضاً من مثقفين وكوادر وسياسيين ومناضلين تقدميين وأصحاب قرار). هكذا يسخّف ويختزل ويؤبلس صديقنا، كل خطاب يدين أميركا: أي نقد لأميركا وللغرب سيتماهى من الآن فصاعداً مع هذيان الرعاع! «العربي النظيف» إذ يعمّم الحقد الغوغائي والغيبي والأصولي الأرعن على شيء غامض اسمه «أميركا»، يمنع كل خطاب نقدي أصيل للمشروع الاستعماري. لن تجدوا، لو مرّة واحدة، لدى باسم يوسف واقرانه، إشارة إلى جرائم اميركا التي تستحق النقد وتنبغي مقاومتها، لكن بعقلانيّة، وليس بالوعي المهزوز للرعاع والهمج. (السخرية الوحيدة من أميركا، كانت سخرية من دونالد ترامب الذي يلتقي مع الاخونجيّة في الهذيان الايديولوجي والتطرّف!). جملة اعتراضيّة صغيرة واحدة، كانت لتغيّر زاوية الطرح: «يا جماعة، كل خطاب معاد للاستعمار، ليس بالضرورة غوغائيّاً وغيبيّاً ومتطرّفاً ومتعصّباً». لكن لا! هذه الجملة ناقصة، لأن المطلوب إخضاعنا للسرديّة المهيمنة: أميركا بريئة، والأوغاد نحن! هناك الهمج (اعداء أميركا) والمتحضرون (رسل أميركا في العالم المتخلف)، وفي طليعتهم باسم يوسف الرجل اللطيف، والفنان الموهوب المحبوب الذي تبناه جون ستيوارت.
في معرض سخريته من المتأسلمين الذين كانوا يتقيأون هذياناتهم على الشاشات أيام مرسي، يوحي باسم يوسف أنّ كل منتقد لأميركا هو بالضرورة في خانة هؤلاء. مصاب بنظرية المؤامرة، ويضع اللائمة على الخارج، فيما هو «الهمجي» الحقيقي و«المتخلف» الفعلي. ولو خضع العربي غير النظيف، للنموذج الاميركي ـــ مثل الكوميدي الواقف أمامنا، هذا الطبيب الجميل الراقي الحليق الناجح، الذي اجتمع ضدّه الإخوان والعسكر ــــ لتخلص من كل مشاكله.
وكي تكتمل صورة باسم يوسف العربي النظيف، «رصّع» الكوميدي عرضه في «مهرجانات بيت الدين الدوليّة» بالعبارات والجمل الانكليزية (لماذا؟ لمن؟). ويكفي كي نتأكّد من ذلك، مراقبة برنامجه الحالي على محطة أميركيّة، حيث يصفّي حساباته مع كل رموز «الزمن البائد» كعرفات وعبد الناصر (ألا يبشّر بالزمن «الثوري» الآتي في ختام عرض بيت الدين؟)، من دون أي محاسبة للقوة العظمى التي تدمّر شعوبنا ومجتمعاتنا. يكفي أن نتوقّف عند خريطة «اسرائيل» التي وضعت بدلاً من فلسطين، خلفه في احدى حلقات «كتيّب الديمقراطيّة» برنامجه الأميركي (والأصحّ «دليل الديمقراطيّة»)! بهذا المعنى باسم يوسف ليس اقل خطورة على المشروع التحرري العربي ـــ أيّاً كانت وجهته ـــ من الاخونجيّة والسلفيّين الذين بنى مجده عليهم وعلى السخرية منهم... وحتّى على جبهة انتقاد الأصوليين التي حببت الجمهور به ذات يوم، فقد بدأ يجتر تقنياته ويفقد مهارته وخفّة ظلّه. لأنّه فقد مشروعه؟