دمشق | في امتحان مادة التاريخ، كتبت تلميذة اسم كليوباترا بدلاً من اسم زنوبيا، في إجابتها عن سؤال: من هي ملكة تدمر؟ لم تتردّد طويلاً في الإجابة، ذلك أنّ مسلسلاً كان يُعرض على الشاشة عن حياة الأولى في الفترة نفسها، فعلق الاسم في ذهنها، وكان أن حصلت على علامة الصفر. في المقابل، بإمكاننا أن نكتب موضوع إنشاء باهراً، نفتتحه بعبارة منسوبة إلى زنوبيا «بئس تاج على رأس خانع ذليل، ونعمَ قيد في ساعدٍ حرٍّ أبيّ». وفي حالة ثالثة، ربما سيظن أحدهم أن سميرة توفيق هي الملكة زنوبيا بعد مشاهدة فيلمها «فاتنة الصحراء».
هكذا راكمنا تصورات فولكلورية وسياحية عن هذه المدينة الأثرية، بوصفها استراحة عابرة في الطريق الصحراوي، وأوكلنا أمرها إلى أدلّاء سياحيين يحفظون عن غيب معلومات تاريخية جاهزة، يرددونها بببغائية أمام الزوار. وبدلاً من استثمار سحر التاريخ في هذه المدينة الأثرية العريقة، عملنا على تأكيد بداوتها بترسيخ صورة مضادة وتصديرها بصرياً إلى العالم، فيما اكتفينا محليّاً بالتقاط صور تذكارية خاطفة خلال عبورنا الطريق الصحراوي إلى الفرات. وربما سنعرّج على «فندق زنوبيا» إلى يسار الطريق، في استراحة قصيرة، نتناول خلالها الشاي الأسود، ونتأمل بقايا أعمدة المدينة القديمة، وغابات النخيل. هناك «رالي السيارات» أيضاً، في ثنائية السرعة والبطء، إذ لن يغيب «الجمل» عن الصورة التذكارية السالفة لاكتمال المشهد الفولكلوري. لم نتمكّن ثقافياً إذاً من وضع تدمر في نسيج التراكم الحضري السوري، كما ينبغي. وحين تحضر في المشهد، سوف نستعيد ذاكرة مهتزّة عن مافيات تهريب الآثار، وإهمال المدينة، وسيهمس بعضهم بوقائع من «السجن الرهيب» الذي يقع في مكانٍ ما من المدينة، أو بالمكان السرّي لدفن النفايات السامة، وسط صحراء تدمر في مقاولة مشهورة، كانت سبباً لارتفاع عدد مرضى السرطان في المنطقة الشرقية للبلاد.
لا أحد يتذكّر اليوم أحمد مادون، التشكيلي الذي استلهم أعماله من مناخات هذه المدينة، منبّهاً إلى فرادة الفنون النحتية لأسلافه، فيما كان فاتح المدرّس يؤكد أهمية الفن التدمري في تأصيل هوية تشكيلية محليّة، وسوف يستدعي نزار صابور «أيقونات تدمر» في معرضٍ لافت، مُذكّراً بعراقة المدن الشرقية وأزمنتها الغابرة، واستثمار النقوش والكتابات على الجدران في بناء أعماله التشكيلية المشغولة بالرمل والرماد. كما سيقترح سمير ذكرى في شريطه الروائي «وقائع العام المقبل» مشهداً لأوركسترا تعزف في المدرّج الأثري للمدينة، ناسفاً بداوتها المعلنة التي راكمها «مهرجان البادية» لاحقاً، بوصفها مكاناً طارئاً لبيوت الشَعر والقهوة المرّة وفرق الدبكة السياحية، والشعر النبطي، وعازفي الربابة الجوّالين، وحفلات الشواء.
الآن، لحظة اقتحام البرابرة الجدّد لأوابد المدينة، و»طريق الحرير»، وممرّ القوافل، وموت الغزاة، ستحضر صورة الإمبراطور الروماني أوريليوس لحظة أسر الملكة زنوبيا، بعدما استولى على المدينة سنة 282 م، واقتاد الملكة المتمرّدة مقيّدة بسلاسل الذهب إلى روما، لتموت هناك بعد فترة قصيرة كمداً، فيما سيعبر المدينة خالد بن الوليد بجيشه آتياً من العراق إلى اليرموك. لن يحطّم التماثيل، أو يستبيح المدينة. توجّه إلى معبد «بل» وبنى محراباً صغيراً جهة القِبلَة، وصلّى هناك ثم أكمل طريقه جنوباً. بالطبع، لن يستعيد الغزاة الجدد مثل هذه الأمثولة، إنما سينجزون نسخةً أخرى مما فعلوه في مدينة الموصل، وسيحطّمون «الأصنام» ويعلنون إمارتهم بحدّ السيف، ومحو الذاكرة الحضرية لهذه المدينة المعجزة، استكمالاً للتمرينات على ترسيخ ماكيت «مدن الملح» الجديدة، بدلاً من المراكز القديمة من بغداد إلى دمشق وحتى صنعاء. ولن يلتفتوا إلى تحذيرات إيرينا بوكوفا، المديرة العامة للأونيسكو من أنّ تدمير مدينة تدمر الأثرية السورية «جريمة حرب، وخسارة هائلة للبشرية لأهم موقع تراث عالمي فريد في الصحراء»، أو لنداء مأمون عبد الكريم، المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا، من أجل إنقاذ المدينة الأثرية المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي منذ عام 1980. لن يكون السيناريو الجديد لهؤلاء البرابرة مختلفاً عمّا شاهدناه في متحف نينوى، لكن حفلة تحطيم الأصنام ستكون هذه المرّة أكثر تأثيراً، نظراً لأننا إزاء متحف أثري في الهواء الطلق. ولكن كيف واجه المثقفون السوريون هذه المحنة؟ اكتفى معارضو ما وراء البحار باستدعاء ذاكرة «سجن تدمر الرهيب»، وهلّل بعضهم لـ «تحرير تدمر»، واستعاد آخرون نصوصاً لمعتقلين سابقين كتبوها عن تجربتهم الرهيبة في هذا المعتقل الصحراوي، فيما خيّم الأسى على آخرين عبر صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي. يقول الشاعر محمد فؤاد: «داعش أنهتْ الثنائية المقيتة التي ضلّلتْ أجيالاً بكاملها: التراث أو المعاصرة، فدمّرتْ التراث، وأعدمتْ المعاصرة»، فيما دعت الإعلامية ديانا جبّور إلى تنكيس الأعلام حداداً، كي لا تضيع لاحقاً، أوغاريت، وكنيسة حنانيا، والجامع الأموي، وبقية الآثار. أما الشاعر صقر عليشي، فاكتفى بالقول: «على أعمدة تدمر يتكسّر ظهر التاريخ»، واقترحت لينا بطل حصان طروادة من نوعٍ جديد «فلنصنع حورية عارية وعملاقة، في داخلها جنود، وندخلها إلى تدمر، فهي الوسيلة الأفضل للقضاء على داعش». هل سنكتفي بالمراثي من المتنبي إلى سليمان العيسى، ونغرق في الرمال، وبقايا طعم التمر وحليب النوق؟ وهل ستنطفئ مدينة الشمس تحت خفق الرايات السود، لمصلحة الخرائط الجديدة لإمارة الصحراء، أم سيستيقظ «زبداي» آخر ليخاطب الملكة «إنّي لأشهّر سيفي حتى في وجه النسيم الذي يعبث بخصلات شعرك يا مولاتي»؟